طارق الحجيري
عقودٌ ثلاثة وبضعُ رابعها، كان السّيد حسن نصرالله جزءًا موجودًا في أدق تفاصيل الحياة اللبنانية وكُلِ أحداثها، أحيانًا كثيرة كان هو الحَدَث نفسه، شَغَل المنطقة والعالم به حيَّا وشهيدًا.
لم يَكُن السيد حسن نصرالله مُجرَد رجل دين شيعي لَمَعَ نجمُه، أو زعيمَ حزب عقائدي يعمل في السياسة، ولا مُجرَد خطيب مُفَوَّه تنصاع له حروف العربيّة كيفما شاء تقليبها، بل أقَلُّ ما يُقَال فيه وعنه أنه ” الحُلُم الشيعي” اللبناني بكل استحقاق وجدارة.
نصرالله الذي تعود جذوره إلى بلدة البازورية الجنوبيّة، وُلِدَ في منطقة برج حمود، حيث نزح والده بحثا عن العمل ولقمة العيش درءً للفاقة والعوز كما كان يفاخر دائما ” أنا لا جدي كان بيك ولا بي كان بيك ولا ابني حيكون بيك”.
انتمى في مطلع شبابه لمدرسة الإمام موسى الصدر، ثم سارت به الأقدار ليكون من جيل المؤسسين ل”حزب الله” مطلع ثمانينيات القرن الماضي ، ليعودَ بعدها ويتولى مقاليد سلطته مؤقتًا، ثم مُطلقَة بلا منازع، طيلة ثلاثة وثلاثين عامًا متواصلة.
ثلاثة وثلاثون عاما قضاها “أبو هادي” في الأمانة العامة لحزبه، بدأها خليفةً للشهيد السيد عباس الموسوي وأنهاها بمكانة مقدسة وهالة استثنائيّة في تاريخ اللبنانيين الشيعة والعرب والفرس، رحلَة نصفِ عُمُرٍ أتقن خلالها السّيد الشهيد مخاطبة جمهوره بقرادة واقتدار، تارةً استثار عواطفهم وخوفهم فرفض العودة قطعًا إلى مرحلة “العتَّالة عالبور وماسحي أحذية” ، تارة أخرى أجَجَّ حماستهم وحناجرهم وقبضاته فأكد لهم “كما وعدتكم بالنصر دائمًا أعدكم به مجددا”.
من يقرأ تاريخ الطوائف في لبنان، سيكتشف سريعًا أنَّ السّيد نصرالله، رفقة الرئيس نبيه بري توأمه السيامي في الثنائي الشيعي، نقلا طائفتهما من طائفة هامشيّة محرومة إلى طائفة حاكمة بكل معنى الكلمة، يتسابق أقطاب باقي الطوائف، وعشاق المناصب، للتَظَلُلْ بفَيئها ونيل رضاها من أجل دخول جنة السلطة وجني مكاسبها.
لن يطوي الاغتيال/ الاستشهاد سيرة السّيد حسن الذاتية السياسية، خاصة مرحلة بعد اغتيال الرئيس الشهيد الحريري حتى فَتْح حرب “المشاغلة والاسناد” لغزة، بل سيفتحها للنقاش والأخذ والرد طويلا بما لها وعليها، سيكون للتاريخ حكمه بالتأكيد.
في التاريخ اللبناني الشيعي، فسواء رحلَ، قُتِلَ، اغتيلَ، ماتَ، غابَ، استشهدَ السّيد نصرالله – تختلف الكلمات لكن المضمون واحد – دخلت الشيعيّة السياسيّة مرحلة “اليُتْم” بكل مرارتها وجروحها وندوبها وألامها، مرحلة ستطول وتطول، عقود طويلة، حتى ينجب التاريخ اللبناني الشيعي شخصية بفرادة واستثنائية السّيد نصرالله.
المرارة التي حملتها كلمات الرئيس نبيه بري في رثاء نصرالله :” يا أخي أيها المجاهد القائد القائم السيد الشهيد، لأول مرة تُخلفُ وعداً وتغادر من دون موعد، أكتب إليك في عليائك وتخنقني العبرة وأنا الذي مسَّني الشوق لرؤيتك ومنعني لهيب النار من لقائك، ثلاثة وثلاثون من العمر سويًا، أنت منّا ونحن منك ولم يحلْ بيننا أثقالُ جبال، أكتب إليك في وداعك وتتوه الكلمات وأنا الذي كسَرَني الرحيل بشهادتك وأخذني أنين الروح في رثائك”.
عقودٌ ثلاثة طَبَع السيد نصرالله جماهيره بطابعه الخاص، إن ابتسم ضحكوا، إن غضب زمجَروا، إن دمَعَت عيناه بكوا، تماهى مع جمهوره لدرجة الفداء بالروح والمال والبنين، بعضُ جمهوره وصل به عَشْقُ سيَّده درجة العبادة، إلى درجة يرفض تصديق أن السّيد بشر سيموت يومًا.
سيعيش جمهور السّيد الشهيد لسنوات وعقود طوال مستذكرًا خصاله، حركاته وسكناته، رفع اصبعه، تعديل عمامته، خلع نظّارته، ستمكث صورته في كل بيت وغرفة ومكتب وجدار مستشفى، مَسّها ممنوع حتّى لو لمَسْح الغبار عنها.
“” أما موضوع اغتياله سيبقى مخفيّ القطب لفترة طويلة، كيف ولماذا؟ من خان من غدر من تخلّى؟ من باع؟ من عقد الصفقات؟ هلا هو غدر الأصدقاء أم شطارة الأعداء؟ أسئلة لا إجابات لها في المدى المنظور””