
أحمد الأيوبي
عادت أوساط جماعة الإخوان المسلمين لتشهد نقاشات واسعة حول خلاصات مرحلة الربيع العربي ومآلاتها وكيفية التعامل مع الوقائع الناشئة عن الأحداث والمسارات التي انتهت إليها أوضاع الدول العربية، حيث وقفت الجماعة بين خيارين: إمّا أن تستوعب نتائج ما جرى وتضع استراتيجية جديدة للتأقلم وتلمّس كيفية الخروج من مآزق فروعها من مصر (مقر مكتب الإرشاد) إلى تونس وسوريا والبحث في العلاقة مع دول الخليج، وإمّا الانزلاق إلى العنف الداخلي لـ«الثأر» من الثورات المضادة والتحوّل إلى تنظيمات تشبه تنظيمات التطرّف، وهو ما كان مرفوضاً، ومن هنا بدأ البحث عن الخيارات التفاوضية بالنسبة للإخوان.
جسّدت تركيا الملاذ الآمن للإخوان المسلمين قبل وبعد ثورات الربيع العربي، وقد عمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على التخفيف من حدّة الصراع بين الحكم في مصر وبين الإخوان.
كما أنّ إخوان مصر المقيمين بين تركيا وأوروبا أنضجوا مبادرة للمصالحة مع الحكم المصري، مقابل التخلّي عن العمل السياسي والاكتفاء بالنشاط الدعوي مقابل تبييض السجون وإنهاء حالة التوتر الناجمة عن المواجهة المفتوحة بين الجماعة والأجهزة الأمنية والسياسية.. وكانت بين يدي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عندما زار القاهرة في شباط 2024 فكان للدبلوماسية والأمن التركيّين وساطة ناجحة في وقف تنفيذ أعداد من أحكام الإعدام الصادرة بحق قادة الجماعة الكبار القابعين في السجن، وعلى رأسهم المرشد العام.
إشكاليات الحكم وإدارة الدولة
كان طموح فروع الإخوان المسلمين للمشاركة أو للوصول إلى السلطة ينطلق في معظم الأحيان من عناوين عريضة وليس من خطط وتجارب وخبرات، بل إنّهم كانوا يفتقرون إلى فهم الدولة العميقة الكامنة في الأقطار العربية، وبالتالي فإنّهم لم يمتلكوا خطة متكاملة ولا رؤية دقيقة لكيفية التعامل مع تحدّي الحكم.
من المفارقات ذات الدلالة الهامة أنّ قيادة الإخوان المسلمين في سوريا نصحت إخوان مصر بعدم الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية مع التوضيح بأنّهم يحتاجون إلى ما بين 10 إلى 15 عاماً من الحكم الائتلافي ليألفهم الحكمُ ويألفوه، وقد أرسلوا بذلك كتباً إلى قيادة التنظيم الأم كما أوضح القيادي في إخوان سوريا محمد فاروق طيفور الذي علّق قبل ترشيح الرئيس الراحل المرحوم محمد مرسي بأنّه إذا فاز الإخوان برئاسة مصر فستكون كارثة على مصر وعلى الثورة السورية.
وبالفعل، فإنّ تتابع الأحداث أثبت أنّ عود الإخوان طريّ وأنّهم لا يملكون الصلابة الكافية لتأمين صمودهم في الحكم، وباقي الوقائع معروفة حتى الساعة.
إختبر الإخوان المسلمون المعارضة لأكثر من 100 عام لكنّهم لم يختبروا الحكم إلّا فترة الرئيس محمد مرسي، بينما لم تكن كتلتهم النيابية أيام الراحل حسني مبارك أكثر من حالة سياسية تتحرّك ضمن الهامش المتاح، ولهذا فإنّهم لم يستوعبوا حقيقة وقدرة الجيش الكامنة، ولا طبيعة الموقف العربي والدولي منهم وقد أصبحوا يقتربون في تلك المرحلة من بدأ بسط سلطتهم على أهمّ العواصم العربية.
شهدت اسطنبول وبعض المدن الأوروبية مؤتمرات عدة للإخوان المسلمين هدفت إلى إعادة رسم العلاقة مع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بعد كلّ هذا المخاض وانتهت إلى قرارات وتوجهات بضرورة المصالحة ومنع حصول أيّ صدامات داخلية، لكنّ تلك التوجهات افتقرت إلى آلياتٍ تنفيذية تترجم هذه الخلاصات التي افتقرت إلى التظهير الإعلامي اللازم لتصل إلى حيث يجب الوصول.
إنّ من أهمّ التقاطعات الحاصلة الآن هو التطور المتقدّم في العلاقات المصرية – التركية، وهذا يأتي من حاجة البلدين إلى تحريك اقتصادهما بشكل مشترك وإلى تقوية مواقعهما في الإقليم، وخاصة في الملف الفلسطيني، حيث تواجه حركة حماس (الإخوانية) ومعها الشعب الفلسطيني، بينما تحتاج أنقرة والقاهرة إلى تعزيز قواهما وحضورهما في وجه الطغيان الهائل الذي يمارسه نتنياهو وبالتالي التعاون لإيجاد حلٍّ في غزة، يستند إلى مؤشرات عن استعداد الإخوان لتسوية تريح الداخل المصري، وتعطي النموذج لما يمكن تحقيقه في بقية الدول العربية التي يتواجها فيها الإخوان المسلمون.
فكرة القضاء على الإخوان غير مجدية
يذهب البعض إلى الاعتقاد بأنّ جماعة الإخوان في مصر على وشك التفكّك والانهيار وبالتالي لا داعي للتفكير في أيّ تسوية أو مصالحة معها، وهذا تصوّر خاطئ، فالإخوان واجهوا على مدى ما يتجاوز المائة عام تحديات لا تقلّ خطورة وصعوبة عن هذه المرحلة، منذ اغتيال مؤسس الجماعة الإمام حسن البنا أيام الملك فاروق، ثمّ حرب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عليهم بعد أن كانوا جزءاً من الضباط الأحرار ثم مرحلتا الرئيسين أنور السادات وحسني مبارك.. وقد تعرّضوا لحالات ضغط هائلة أيام عبد الناصر بلغت ذروتها في إعدام سيد قطب وسلسلة من قادة الجماعة، وصولاً إلى حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي وما جرى في رابعة وما تلاه من أحداث مؤسفة.. ومع ذلك فإنّ فكرة القضاء على الإخوان لا توافق السياق التاريخي ولا الواقع، فهي جماعة عقائدية تحمل فكرة راسخة، لا يقضي عليها القضاء على الأفراد أو المجموعات.
وبقدر ما يحتاج الإخوان المسلمون إلى إعادة النظر في كلّ ما جرى وفي مستقبل حركتهم التي لا يمكن أن تستمرّ بدون إدماجها في العصر بالشكل الفاعل وبدون تحديد سياسات ثابتة وراسخة تجاه مسألة المشاركة السياسية وكيفية تجنّب تكرار أحداث مؤلمة على الجميع لم ينتصر فيها أحد في المحصلة النهائية.