كتبت جنى الدهيبي في المدن
عند الوصول إلى منطقة الزاهرية الواقعة في الشطر القديم من طرابلس، يتجه عشرات الشبان إلى نقطة واحدة: محيط المبنى القديم الذي انهار مساء الاثنين. ويبدو هؤلاء كمن يستشرف مصيره المحتمل داخلأبنية قديمة وتراثية متهالكة أو مهددة بالسقوط.
محيط المبنى
يجد بعض السكان قرب “أفران المير”، الذي تعود لأصحابه ملكية المبنى، بأنهم كانوا محظوظين لعدم وقوع جرحى وقتلى. يقول بائع القهوة الجوال الذي يقف في الجهة المقابلة للمبنى ساخرًا لـ”المدن”: “منيح، هذه المرة قامت البلدية بشيء مفيد حين طلبت من سكان المبنى قبل أشهر إخلاءه. فسقط من دون أضرار بشرية”.
وهذا المبنى المؤلف من ثلاث طبقات، تضاعف خطر سقوطه عقب الزلزال الذي هز تركيا وسوريا في شباط الفائت، ووصلت ارتداداته إلى لبنان. ومنذ ذلك الحين، أخطرت بلدية طرابلس سكان المبنى بضرورة إخلائه نظرًا لظهور تشققات في جدرانه وأعمدته الأساسية، ثم طوقته لاحقًا بشريط أحمر لمنع الاقتراب منه.
يتحدث سكان الزاهرية المحيطين بالمبنى عن رعب أصابهم عند التاسعة مساء، حين دوى سقوط المبنى. لكن بعض سكان المنطقة لم يصدمهم نبأ سقوطه، وهم يتداولون معلومات وشهادات عن أن صاحبه طارق المير، مالك الفرن المجاور، قام بإرسال أشخاص في الآونة الأخيرة، كانوا يقومون بسحب الحجارة من المبنى وبيعها في الخارج لتسريع عملية سقوطه. لكن هذه الرواية، تنفيها شقيقة المير التي كانت تجلس في الفرن نيابة عنه، وتقول لـ”المدن”: “المبنى بالأساس مهدد بالسقوط منذ عقود، وهذه افتراءات”.
في المقابل، تشير معلومات أخرى عن أن صاحب المبنى كان قد طلب مرارًا من البلدية الحصول على رخصة لهدمه وبناء مبنى جديد آخر مكانه. لكن إدراج المبنى على لائحة الأبنية الأثرية في طرابلس لدى مديرية الآثار، حال دون ذلك.
آلاف الأبنية مهددة
وبمعزل عن حقيقة سقوط المبنى، تسلط قصته الضوء مجددًا على واقع الأبنية المهددة بالسقوط في طرابلس، وهي بالآلاف، لا سيما ضمن نطاق طرابلس النهرية.
لم ينس أهالي طرابلس فاجعة سقوط مبنى “ضهر المغر”، منتصف العام الفائت، والذي أودى بحياة طفلة تبلغ خمس سنوات. كما تفاقمت مخاوفهم بفعل ما يشهده العالم من تطرف مناخي وهزات أرضية تضاعف المخاطر التي تهدد أبنيتهم، لا سيما أن النطاق الجغرافي لطرابلس النهرية، ومعظمها مناطق فقيرة وشعبية، شاهدة على الفيضان الكبير العام 1955، الذي ألحق أضرارًا هائلة بأبنيتها، المصنف بعضها أثرياً.
هنا، يعود إنشاء معظم الأبنية القديمة إلى عهود مختلفة في الحقبتين المملوكية والعثمانية، بينما آلاف الأبنية، أي أكثرها، تم بناؤها في بداية السبعينيات، قبل الحرب الأهلية.
وبفعل الفوضى العارمة في تلك المرحلة وما تبعها، نشأت مئات الأبنية المخالفة للقانون. وبعد عقود، ونظرًا لسوء بنائها، أصبحت تحتاج إلى صيانة أساسية من طرش وتلبيس ومعالجة للنشّ، وصيانة شبكات الصرف الصحي والإمدادات الكهربائية.
ويسري هذا الواقع على عدد من المناطق اللبنانية الأخرى. وفي رقم افتراضي تحدثت عنه العام الماضي جمعية “شبكة سلامة المباني” غير الحكومية، بأنه في أقل تقدير يوجد نحو 16 ألفًا و200 مبنى آيلاً للسقوط بلبنان، وحوالى 10 آلاف و460 منها في بيروت وضواحيها، إضافة إلى رصدهم ما لا يقل عن أربعة آلاف مبنى في محافظة الشمال مهددة بالسقوط، وباقي الأبنية بالبقاع وجبل لبنان والجنوب.
لكن طرابلس التي تتميز بفرادتها العمرانية، حيث تعد أبنيتها إرثًا تاريخيًا يمزج عبور حقبات عديدة عليها، كالفينيقية والرومانية واليونانية والبيزنطية والأموية والعباسية والفاطمية والصليبية، وصولاً إلى الحقبة العثمانية، إضافة إلى آلاف الأبنية العشوائية التي بنيت مطلع السبعينات، يبدو واقعها مأساويًا. ذلك أن معظم هذه الأبنية، تخضع لقانون الإيجار القديم، ويرفض مالكوها، كحال معظم الأبنية في لبنان، تكبد تكاليف الترميم الباهظة، لا سيما أن ترميم الأبنية التراثية، يستوجب الخضوع لمسار طويل ومعقد تحت إشراف مديرية الآثار.
وسبق أن أعلنت بلدية طرابلس عن وجود نحو 400 مبنى متصدع في طرابلس، بينها أكثر من 63 مبنى سكنياً مأهولاً يجب إخلاؤها فوراً.
عمليًا، يُحمّل خبراء كما السكان، الدولة مسؤولية هذا الواقع الذي يهدد حياة الناس والأسر الفقيرة، حيث لا تعمل على توفير البدائل لساكني الأبنية المتصدعة أو المهددة بالسقوط. في حين لم تتحمل الحكومات والبرلمانات المتعاقبة مسؤولية صوغ سياسات سكنية لحماية السكان، مقابل غياب الرقابة الصارمة على عمليات البناء المخالف.
ورغم صدور مرسوم السلامة العامة المتعلق بشروط البناء سنة 2013، لكن أكثر من 90% من الأبنية تم بناؤها قبل ذلك العام.
ومع سقوط كل مبنى، ومع تفاقم مخاطر العوامل المناخية، وتحديدًا في فصل الشتاء، يعيش سكان هذه الأبنية مخاوف كبيرة، في بلد لا يجدون في مأوىً آمنًا للاحتماء تحت سقفه مع أسرهم وأطفالهم.