
كتب أحمد الأيوبي
لم تكن فضيحة انكشاف عصابة الاعتداء على الأطفال في لبنان جريمة معزولة عن سياق عالمي بلغتْهُ بعض المجتمعات البشرية أوصلها إلى الدرك الأسفل من الانحطاط والإجرام والاعتداء على الفطرة والإنسانية وعلى أحبّ وأضعف أبنائها وهم الأطفال، فما جرى في لبنان هو امتداد لأفعال واحدٍ من أكبر مجرمي هذا العصر ’’جيفري إبستاين‘‘، صاحب ما يسمى “جزيرة المتعة” التي حوّلها مرتعاً لكلّ أصحاب الشذوذ ومعتقلاً للاعتداء على مئات الأطفال والفتيان والفتيات بتعاون مع “كبار القوم” في أميركا وأوروبا، وبإدارة خبيثة من أيادي الموساد التي لا يُستبعد أنّها تقف وراء معظم شبكات الاتجار بالبشر، ومنها لبنان.
التدخل الصهيوني لحماية جرائم إبستاينكان الصهيوني النافذ روبرت ماكسوال مالك صحيفة (دايلي ميرر) المتدخِّل الأول لحماية الملياردير الأمريكي من أصول يهوديّة جيفري إبستاين مالك إحدى جزر فرجين بالبحر الكاريبي، وهو شخص من ذوي الميولات الجنسيّة البيدوفيليّة والشّاذّة،..انكشف أمره سنة 2005 حيث حاول مراودة طفلة (14 سنة) على شواطئ (بالم بيتش فلوريدا)، وقد اشتكاه أهلها فأوقف وأثبتت التحريّات معه أنّه تحرّش أيضا بـ36 قاصراً أخرى..بعد 13 شهراً من السّجن أطلق سراحه في صفقة تسوية مشبوهة بتدخّل من الصّهيونيّ روبرت ماكسوال شخصيّا.. وبدعم من الأخير قرّر أبستاين توسيع (نشاطه) وإحاطته بالسريّة والكتمان، فربط علاقات مع عبدة الشّيطان واشترى جزيرتين صغيرتين مهجورتين خصّص إحداهما لأفعاله المشينة وحوّلها إلى مكان لأقذر أنواع الجرائم على وجه الأرض، حيث تُعقد (حفلات البيتزا) التي يُمارس فيها الشّذوذ الجنسيّ مع الأطفال القصّر إناثا وذكوراً بساديّة مقرفة: فيتمّ اغتصابهم وتعذيبهم والاعتداء عليهم بوحشيّة وترويعهم وصولاً إلى قتلهم وامتصاص دمائهم..ثمّ أخذ أبستاين يستقطب لحفلاته الماجنة تلك علية القوم من رجال السياسة والمال والأعمال يتولّى نقلهم إلى جزيرته بطائرته الخاصّة (لوليتا إكسبرس)، وسرعان ما تمدّد عالميّا وأصبح رقما أساسيّا صعبا في “متعة المشاهير” وسنة 2019 وبعد مسار حافل من القذارة والإجرام تمّ القبض عليه متلبّساً وأودع السّجن بتهم الاتّجار بالجنس واغتصاب قصّر..وأثناء انتظاره المحاكمة قيل إنّه انتحر في زنزانته، ولكن يُرجّح أنّه قُتل لدفن الأسرار والفضائح، وقد سمّيت هذه الحادثة في وسائل الإعلام بفضيحة البيتزا (بيتزا غايت)..
تشير التقارير حول هذا الملف إلى الصّهيونيّ روبرت ماكسوال هو من قدّم جيفري أبستاين للموساد بوصفه قهرماناً وضيعاً مؤهّلا للمهمّات القذرة، فاستقطبه منذ سنة 2005 ومكّنه من الغطاء الأمنيّ لـ(إمبراطوريته البيدوفيليّة) وكلّفه بمهمّة إسقاط زوّار جزيرته وتوثيق سلوكيّاتهم المشينة صوتاً وصورة بما يكشف نقاط ضعفهم ويفضح أسرارهم ويُفقدهم مناعتهم السياسيّة ويجعلهم تحت طائلة الوصم والتّشهير.. فقضيّة (بيتزا غايت) هي عمليّة استخباراتيّة في شكل فخّ لاصطياد السّاسة وصنّاع القرار والإيقاع بالإعلاميّين والمشاهير والمؤثّرين والفنّانين، ثمّ إخضاعهم للابتزاز والتّهديد والضّغط حتّى يصبحوا أدوات طيّعة بيد يهود يفرضون بهم خياراتهم محليّا إسرائيليّا ودوليّا غربيّا..ودونكم قائمة وثائق أبستاين، فهي تغطّي مؤسّسة الرّئاسة ومؤسّسة السينما (هوليود) بأمريكا، بما يمكّن من التحكّم في السياسة الدوليّة وتوجيه الرّأي العام العالمي.وبما أنّ قسماً من أعضاء الشبكة اللبنانية ينشطون في أوروبا، فإنّ احتمال دخول الموساد على نشطهم أقرب للواقع، وهذا من شأنه أن يدفع نحو مزيد من الاختراقات ومن المخاطر الأمنية.
البُعدُ الدولي لجرائم الاتجار بالبشر والاعتداء على الطفولةتعترف الأمم المتحدة بتنامي جرائم الاتجار بالبشر والاعتداء على الطفولة وتكشف تقاريرها السنوية الصادرة عن منظماتها المعنية بهذا الشأن عجز المنظمة الدولية عن كبح جماح هذه التجارة الإجرامية، وذلك لأسباب كثيرة، منها ضلوع رؤوس كبيرة في المجتمعات الأوروبية والأميركية في هذه العمليات، وقد كشف سجلات الشرطة نماذج من المتورطين من أصحاب السلطة والمال والنفوذ، فضلاً عن الأصابع الإسرائيلية الواضحة.من هنا يأتي توزع الشبكة المكتشفة بين لبنان وأوروبا، لأنّ ما كان يجري تصويره خلال اغتصاب الأطفال والاعتداء عليهم، يتحوّل إلى أموال سوداء في سوق ترويج هذا النوع من الشذوذ الذي استقوى بالحريات غير المحدودة التي تتيحها القوانين والتشريعات الغربية، حتى وصل الأمر إلى البدء في التمهيد لتشريع الاعتداء على الأطفال باعتبار ذلك شكلاً من أشكال “الطبيعة” البشرية.
سقوط دعاة تشريع الشذوذكشفت شبكة الاعتداء على الأطفال في لبنان جملة من الحقائق لا ينبغي تجاوزها على الإطلاق: أنّه لا يجب بعد الآن السكوت على وقاحة كلّ من شجّع وروّج ودعا إلى التسامح مع ظواهر الشذوذ بجميع أشكالها. فقد سقط هؤلاء أخلاقياً قبل أن يسقطوا قانوناً.والدليل على ذلك أنّ جميع المنظمات العاملة في لبنان والتي تتلقى التمويل من جهات غربية مانحة تلوذ بالصمت وتمتنع عن إدانة جرائم هذه العصابة، لأنّها جزء من شبكات تعمل على تمهيد الأرضية لفرض الشذوذ تحت عناوين ’’حرية المرأة وعدم التمييز الجندري‘‘، وصولاً إلى المطالبة بتشريع الشذوذ وتغيير القانون بما يتلاءم مع هذا الاتجاه.أمّا النواب الذي تجرّؤوا وطرحوا تشريع الشذوذ فعليهم الاعتذار من اللبنانيين ومن الضحايا لأنّهم بطروحاتهم تلك، كانوا يغطّون جرائم هؤلاء الذين لم يرتكبوا خطيئة بنظر الأديان فحسب، بل إنّهم اعتدوا على الفطرة البشرية وانتهكوا طفولتها، وأصبح واضحاً الآن أنّ هذا المسار يجب أن يتوقف وأن يتراجع دعاة الحريات المنفلتة والنسوية المتطرفة والمنظرون للجندرة، لأنّ ما يفعلونه هو الوجه الآخر للاعتداء على الفطرة والطفولة.
العالم السفلي وافتضاح إجرام الشاذينحقيقة أخرى صارخة في خضمّ هذه التطوّرات وهي انكشاف هذا العالم السفلي الخفيّ والذي كان أعضاؤه منتشرين بيننا من دون أن نعرفهم وهم يعيشون معنا في الأعمال والحياة الاجتماعية، بينما يمارسون إجرامهم وكأنّ شيئاً لا يحدث.سقطت أيضاً وأيضاً الكذبة الكبرى التي كانت تزعم أنّ أصحاب الشذوذ هم أشخاص مسالِمون وضعفاء وأنّهم لا “يؤذون نملة” وهذا كان سبباً لدعوات التعاطف معهم، لكنّ اللبنانين اكتشفوا أنّ هذه الفئة تعتبر من أخطر المجرمين وأكثرها ساديّة ودناءة، وهذا يوجب أن تُسحَبَ كلّ عناصر التساهل معهم بجميع أشكالها وإعادتهم إلى مربع الرقابة والحذر منهم، فالاعتداء على أكثر من 300 قاصر على أيدي هؤلاء جريمة تضرب عمق الأمن الاجتماعي وتهدّد الاستقرار.وهنا نتوقف عند إصرار البعض على الدفاع عن هؤلاء باعتبارهم أنّ المعتدين لم يستعملوا العنف مع القُصّار، وكأنّه مباح التغرير بالأطفال واستدراجهم وتخديرهم والاعتداء عليهم وابتزازهم والمتاجرة بآلامهم بأسواق دعارة الأطفال، والأسوأ تدمير حياتهم الشخصية بأبشع الصور.
الضغوط على القضاء وموقف مشرِّف لنقابة محامي الشمالمن المنطقيّ الاعتبار أنّ هناك مراكز نفوذ وسلطة تغطي هذه الشبكات، لأنّها كانت تتحرّك بغطاء، هي وشبكات الدعارة الموازية، وهذا أمرٌ معلوم لذلك نرى أنّ هناك بَوْناً واضحاً بين خطورة الجرائم المرتكبة وحجمها وبين استجابة القضاء المقيدة بضغوط غير خافية وبالنصوص القانونية الجامدة التي تحتاج إلى تعديلات تسمح بالوصول إلى هؤلاء المعتدين وتغليظ العقوبات عليهم، لأنّ ما فعلوه ليس جريمة فردية، بل جريمة جماعية منظمة، وتشكيل عصابة إجرامية تستوجب عقوبات استثنائية.وصحيحٌ أنّه لم يثبت ارتكاب جرائم قتل في الشبكة اللبنانية حتى الآن، لكنّ نظرائهم في أميركا وأجزاء أخرى من العالم مارسوا كلّ اساليب الوحشية، فاغتصبوا الأطفال ذكوراً وإناثاً وذبحوهم وشربوا دماءهم، والحقيقة التي يجب أن تكون واضحة للجميع هي أنّ هؤلاء يشربون من معينِ خبث واحد.كان لافتاً في خطوة نقابة المحامين في الشمال برفع الحصانة عن خالد مرعب الذي سبق له أن جاهر بخروجه عن القيم الدينية والاجتماعية وبالشذوذ، أنّ النقابة استخدمت في بيانها عبارات ومصطلحات تؤكِّد تمسّكها بالفضيلة والأخلاق العامة وتعبِّر عن الضمير الإنساني والوطني فجاء في بيان مجلسها أنّه “هلّ لنا أن نتلقّى بتاريخ 8 أيّار، طلب الإذن بملاحقة أحد المنتسبين إلى النّقابة، في قضيّة تمسّ الأمن الاجتماعي وحقوق الأطفال، وتكاد تضرب شجرة الفضيلة الطيّبة في جذعها”.
وشدّد المجلس على أنّ “القضيّة موضع التّحقيق أخطر من أن تكون شأنًا يخصّ شخصًا بعينه، وإنّنا، ومن دون القفز إلى نتائج التّحقيق قبل ختمها، وإلى الأحكام قبل إبرامها، لا نجد في مسؤوليّاتنا النّقابيّة ما يسمو على حماية مجتمعنا وأطفالنا”.وأعلن أنّ “لذلك، فإنّنا نطلق اليوم مبادرةً للرّعاية الحقوقيّة للأطفال، ونعلن استعدادنا لتوفير خطّ ساخن لتوفير الدّعم للضّحايا الّذين تستهدفهم يد الإجرام، هادفين للتّعاون مع المؤسّسات التّربويّة والاجتماعيّة في توعية الأسر وأبنائها، والخطّ السّاخن هو 81/519782”.كما أكّد أنّ “نقابة المحامين في طرابلس وُجدت لتحمي رسالتها، لا لتحمي الخاطئين من أفرادها، ولا بدّ لنا حين يُخدش مقام المحاماة بالخطيئة، أن نستذكر ما نستهل بها نظامنا الداخلي من أنّ المحامين “نخبة المجتمع ورسل العدالة وحماة الحقوق”.الأهل والدور المطلوبأمّا الدور الأهمّ في هذه المعادلة فهو دور الأهل في الرقابة والمتابعة لأطفالهم، فعالم التواصل الاجتماعي شديد الخطورة على الأعمار الصغيرة والحرِجة التي تحتاج إلى الإرشاد والاحتواء والرعاية والعناية، لكن تبقى شرائح من الأطفال والفتيان تعاني من التفكّك الأُسري بأشكاله المتنوعة، وهؤلاء مسؤولية المجتمع بمؤسساته الاجتماعية والدينية والتنموية حتى لا يقعوا ضحية الاستفراد الإجرامي وكي لا يتحوّلوا إلى قنابل ستنفجر في المجتمع ولو بعد حين.دور القيم الدينية والأخلاقيةأخيراً، تبقى معادلة دقيقة هي حضور القيم الدينية والأخلاقية في الحياة العامة، فقد أثبت التاريخ أنّ لبنان لا يمكن أن يعيش إلاّ بالتنوّع وباحترام الأديان والقيم التي تشكِّل الرادع الذاتي للناس عن ارتكاب الجرائم حتى في زمن ضعف الدولة وغياب تطبيق القانون، من دون أن تكون مدخلاً للفرض والإكراه، والخلاصة أنّ الحريات ضرورة بشرية، لكنّها تتحوّل إلى عدوان عندما تصبح وسيلة لتسهيل ارتكاب الجرائم ولاستضعاف الفئات الأكثر هشاشة وحاجة للحماية والرعاية والرحمة.
