كتب الدكتور مصطفى الحلوة
على صفحته في فيسبوك
كتب المغترب اللبناني/الأسترالي الحاج إبراهيم الزعبي في صفحته على الفايسبوك (25 تموز 2023) خبرًا، يستحقُّ أن نُعقّب عليه، وذلك لطرافته، ويُمكن إدراجُه تحت القول المأثور:”قالت العجائز: كلّ شيء جائز!”. بل إنّ جوازك ما لا يجوز قد يكون من علامات الساعة!
خُلاصة الخبر أنّ الحاج أبا بلال دخل عيادة أخصّائي العيون، في مدينة سيدني (أستراليا)، حيث يستطبُّ منذ أربع سنوات، فلفت نظرَه، هذه المرّة، وجودُ سكرتير ذكر وليس أنثى، يقوم بعمل، قلّما يقوم به رجل في أستراليا. ذلك أنّ مهمّة السكرتير، بحسب الحاجة إبراهيم، وخاصة في عيادة الأطباء، محصورة بالنساء، منذ أن وطئت قدماه أرض أستراليا! ويُتابع قائلًا: رغم أنّ هذا السكرتير يرتدي لباس الرجال وشكله شكل الرجال إلّا أنّ تصرّفاته وحركاته توحي بأنّه أُنثى مِغناح! ولغاية في نفس كاتبنا، وبمنتهى الاستعباط المتصنّع، توجّه إلى السكرتير بالقول: جميلٌ أن نرى رجلًا يقوم بعمل كهذا، فنظر إليه شذرًا، وأجاب، بمنتهى الجِدّية: لقد انتهى زمن الفرق بين الرجال والنساء! قالها بصوتٍ عالٍ شديد النعومة، وكأنّه يُريد أن يلفت نظر الجميع إلى وجود إنسان حشريّ متأخّر (أي متخلّف)، لم يُدرك حتى الآن أنّنا أصبحنا في زمن العجائب! ثم رفع غرّته إلى أعلى، وركّز على الكومبيوتر، الذي أمامه، وهو يتميّز غضبًا! ويُنهي الحاج إبراهيم متساىلًا: هل سيحلّ الرجال في أستراليا محل النساء، ليقوموا بأعمال كانت حكرًا على النساء؟ وهل العكس صحيح أيضًا؟..ولا يملك الحاج إبراهيم إلّا التوجُّه إلى الله مستعينًا: يا إلهي، ألم يحصل هذا فعلًا، وفي كلّ المجالات؟ ويُفضي إلينا ختامًا بمعلومة، فحواها أنّ كلّ الاستمارات الحكوميّة في أستراليا ألغت الخانة المخصّصة لتحديد الجنس، فلم يعُد مطلوبًا منك مثلًا، عند الولادة، أن يُكتب في وثيقة الولادة إسم الأم أو إسم الأب، بل نكتب إسم الفريق الأول وإسم الفريق الثاني، وهكذا .!
..في رصد للتعليقات، على هذا الخبر، نتوقّف عند عدد منها، تُظهر ردود فعل أبناء الجالية اللبنانية والجاليات العربيّة، كما ردود فعل محلّية لبنانية. إشارة إلى أنّ ردود الفعل إنطلقت من خلفيّات متعدّدة. فمن الخلفية الدينيّة نقرأ: “نسأل الله السلامة والعافية، وأن يحفظ عباده والبشريّة من المفسدين في الأرض، باسم الحرّية والتحضُّر/حسبُنا الله من القادم/يا لطيف، أستُرْآخرتنا يا ألله/اللهُمَّ نعوذ بك من الفتن، ما ظهر منها وما بطن/لا حول ولا قوة إلّا بالله”. وأمّا من خلفية علميّة بيولوجيّة طبيعيّة، نتوقّف عند تعليقين، أوّلهما:” هذا يخالف كل النواميس والأعراف والأديان والقواعد والنظريات الطبّية والعلميّة، أن يختار المخلوق جنسه، بكلّ وعي وإدراك. هذا إسفاف وانحطاط فكري. وإذا كانت بعض الدول أصبحت تعتمد هذا الأمر في دوائر السجلات الشخصية، فالقضيّة مربكة وغير منطقيّة، علميًّا واجتماعيًّا، ولربما طبّيًا، أن يتحوّل الذكر إلى أنثى والعكس! والمسألة ليست نظريّة، بل أصبحت واقعًا معاشًا”. وثاني التعليقات:جايه “Humanoid”، يلّلي عبارة عن رجل آلي، وسيأخذ مكان هذا الشخص/ إلى أين يتّجه هؤلاء؟(أي المجتمعات الغربية).
وأمّا من خلفية تُظهر عدم تكيّف جيل الآباء من الجاليات العربيّة والإسلاميّة في المجتمع الاسترالي وتمسّ منظومة قِيَمه. ناهيك عن التخوّف على جيل الأبناء. هكذا يستوقفنا التعليق الآتي: “الخوف هو على أبنائنا من الانصهار في هذه البوتقة، على مرّ السنين، فتُقام الأعراس، ذَكَر على ذَكَر وأنثى على أنثى”، أي بما يأخذ الأجيال الطالعة إلى “المثليّة”، التي تمت شرعنتُها في غالبيّة الدول الغربيّة!
..في مقاربتنا النصّ الأساس، وما دار حوله من تعليقات، نجدُنا مسوقين إلى مطالعة حول انقلاب المقاييس رأسًا على عَقِب، بل انقلاب الأدوار بين الرجال والنساء، وهي المسألة، التي انطلق منها كاتبنا الحاح إبراهيم الزعبي، ولِتُثار على جوانبها مسائل أخرى، ظهّرتها مختلف التعليقات.
لعلَّ استعانتنا بالتاريخ واستنطاقه يخفّفان من غلواء “التعجُّب” والاستهجان والتخوّف “المشروع”، فقد عرفت الحضارات القديمة المتعاقبة ما يُماثل الظاهرات، التي تأخذنا إليها “الحضارة” الغربية الراهنة، التي تتعولم، وتفرد جناحيها على العالم بأسره! ولنا في العودة إلى تاريخنا العربي الإسلامي ما يضعُ النقاط على حروف الإشكاليّة، التي نتصدّى لها، تفكيكًا وتحليلًا.
في إكبابنا على التراث العربي الإسلامي، بما يخصّ الشذوذ الجنسي، نجد أشباهًا للسكرتير، بطل الخبر، الذي أتانا به الحاج إبراهيم الزعبي. فقد انتشرت ظاهرة المردان (جمع أمرد، وهو الغلام الذي لم تنبت لحيته)، في العصر العباسي، كما في العصر المملوكي، ولدى سلاطين بني عثمان. فقد عجّت القصور ودور الخاصّة، من علّية القوم، بالمردان، وكان لبعض الخلفاء بضع مئات منهم، وغدا اللواط ظاهرة خطرة، وَسَمت تلك العصور.
وهذا ما دفع الشاعر إبن الوردي (1292-1349م) إلى القول:”يا قومُ صار اللواط اليوم مُشتهرًا/وشائعًا وذائعًا من غير إنكار !”
يروي الطبري، في تاريخه، أنّ الخليفة الأمين:”طلب الخصيان وابتاعهم، وغالى بهم، وصيّرهم لخلوته، في ليله ونهاره، ورفض النساء الحرائر والإماء”! (أليس في ذلك معاكسة للطبيعة البشرية، بحيث يُنزع من النساء بعضٌ من وظائفها الطبيعية البيولوجية، فيكون الذكور، من مردان وخصيان، بدلاء منهنّ، وهذا ما يؤرّق الحاج إبراهيم الزعبي!!).
ويُروى أن والدة الخليفة الأمين، السيدة زبيدة بنت جعفر، حاولت ثنيه عن عادته هذه، فأتت له بفتيات، يتشبّهن بالغلمان، دون أن تنجح في مسعاها! ويُحكى أنّ الأمين كان متيّمًا بأحد الغلمان، ويُدعى “كوثر”، وانشد فيه شعرًا: “كوثرٌ ديني ودنياي وسَقْمي وطبيبي/اعجزُ الناس الذي يلحى مُحبًّا في حبيبِ”. وكذا الأمر مع أخيه الخليفة المأمون، فقد كان يحوز مائتي جارية، ثمّ مال إلى الغلمان. وكذلك فعل الخليفة المعتصم، إذْ جنح إلى الغلمان الأتراك.
وفي عودة إلى “كوثر”-وهو إسم، يُختصّ غالبًا بالإناث- لم يكن ذلك غريبًا، في ذلك العصر، فهناك غلمان سُمّوا “جميلة” و “فاتن”. ومنهم من تعلّم فإنّ الإغواء، ومنهم من كان يفتح ازرار قميصه، بهدف الإغراء، ويُغنّي في مجالس الرجال!
وعلى جبهة الشعر، حدِّث ولا حَرَج، فقد أشتُهر أبو نواس بعشقه للغلمان. وعندما قيل له:”زوّجك الله الحور العين!”، أجاب بأنّه ليس بصاحب نساء، بل الولدان المخلّدين، في إشارة إلى الآية القرآنية، التي تتحدّث عن وِلدان مخلّدين، يخدمون المؤمنين في الجنّة: “ويطوف عليهم وِلدان مُخلّدون، إذا رأيتَهم حَسبتَهم لؤلؤًا منثورًا” (الإنسان: 19)
ويُروى انّه بعد ركود سوق النساء، عمد بعضهنّ إلى التشبّه بالغلمان، ملبسًا ومظهرًا، فأُطلق عليهن لقب “غلاميّات”. وهو ما ندعوه اليوم، بلغتنا الطرابلسية/اللبنانية “حسن صبي”! ولطالما كنّا نردّد، في طفولتنا، بوجه المتشبّهة بالذكر هذه الاهزوجة:”حسن صبي/قومي لعبي/بَدِّك عريس/يوم الخميس!”
في مقلب آخر من المسالة، ومن منطلق الموضوعية والصُدقية، فقد كانت مواقف معارضة ومناوئة لهذه الظاهرة، في العصر العباسي وفي العصور اللاحقة. فقد كانت شرائح واسعة من الناس، بقيت قابضة على دينها.. كان الزهّاد والمتصوّفة، الذين رفعوا الصوت عاليًا، وتصدّوا لمختلف التظاهرات الشاذة، التي حفلت بها تلك العصور. في هذا المجال، يُروى عن سفيان الثوري إدانته لظاهرة الجواري والغلمان، إذْ يقول:”مع الجارية شيطان، ومع الغلام شيطانان!”
لا بدّ استكمالًا، للمشهدية، التي تطرّقنا إليها، من التأكيد، ومن منطلق خلدوني، في فلسفة التاريخ، أنّ للدول أعمارًا وأدوارًا، وعندما تبلغ الدولة ذروة “الحضارة”، تغشاها ظاهرات شاذة، فتنقلب المقاييس وتتهاوى منظومات القيم الأخلاقية، ونجدُنا أمام العجب العُجاب! هذا ما جرى لمختلف الحضارات المتعاقبة، في تاريخ البشرية، في عِدادها الحضارة العربية الإسلامية! وهذا ما يجري في عصرنا راهنًا، مع الحضارة الغربية، التي تُحتضر.. وهذا ما يبشّرنا به مفكرون غربيون، منذ عشرات السنوات، عبر مؤلّفات، أبرزها “موت الغرب”، للكاتب باتريك بوكانان، وهو الكتاب الذي أرغب أوروبا والغرب وأقضّ مضاجعهما! وكتاب”تدهور الحضارة الغربية” للفيلسوف والمؤرخ الألماني اوسفالد شبيغلر..أجل يموت الغرب، لموت القيم الأسرية والتربوية!..والحبل على الجّرار، في احتصار حضارة ما بعد الحداثة، “والدهرُ حُبلى ليس يُدرى ما تلِد!”
- من بيادر الفسابكة / قراءة نقديّة في قضيّة.