كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن سوء إدارة المؤسسات والجمعيات الوقفية في لبنان، والحقيقة أن هذا الموضوع ليس جديداً ولا طارئاً على موضوع إدارة الوقف واستثماره. فمنذ أن نشأت فكرة الوقف في العهود الأولى للإسلام وطبقت بشكل واسع بأشكال مختلفة تهدف كلها الى تحبيس المال وتوزيع غلته على الفقراء أو على جهات حددها الواقف في وقفيته من مشاريع خيرية ومستشفيات ومؤسسات تعليمية ومرافق عامة، حصلت مواجهة بين أريحية الواقف ومنفعية وجشع بعض المتولين لإدارة الوقف أو خروجهم عن الأهداف التي أرادها الواقف أو التلاعب بها واستبدالها. فكان لا بد من تشريعات صارمة تـردع متولي الوقف – سواء كان يتربع على قمة الهرمية الوظيفية في الدولة او يتصدر أعلى رتبة في المرجعية الدينية أو شخصية ذات نفوذ في المجتمع – عن سوء استغلال الوقف والتلاعب به لتحقيق مآرب شخصية أو ليحيد به عن وجهته الأصلية. وقد واجه القضاة في العصور الإسلامية هذا المنحى الإستغلالي لبعض متولي الوقف وتمت محاسبتهم وفق ما نصت عليه الشريعة الإسلامية من أحكام بهذا الخصوص. المشكلة كانت وما زالت تكمن عندما كان يتولى أصحاب النفوذ وأصحاب السلطة إدارة هذه الأوقاف. إذ يقف بعض القضاة موقفاً محايداً لا يتجرؤون فيه على محاسبة متولي الوقف إذا كان من أصحاب النفوذ والسلطة إما اتقاءً لشروره أو طمعاً في محاباته. هذه الأحداث سجلها لنا كتاب جريئون في مختلف العصور ( في العصر الحديث : مجموعة مقالات أحمد الحبال في جريدة اللواء، مقالات ومحاضرات توفيق الحوري، كتاب الأوقاف والسياسة في مصر تأليف د. ابراهيم البيومي غانم). ويكفي أن نذكر رقمين حتى تنحبس أنفاسنا عند ذكر المساحات الهائلة التي حبسها لنا أجدادنا لتكون وقفاً على جهات الخير وما بقي منها في الوقت الحاضر. في إحصائيات الحقوقي النمساوي هايدبورن في كتابه القانون العام العثماني المطبوع باللغة الفرنسية سنة 1908 (صفحة 306) يشير إلى أن ثلاثة أرباع المساحات المستثمرة في الدولة العثمانية كانت أوقافاً، وفي كتابه نظام الملكية العقارية في سوريا ولبنان المطبوع في فرنسا سنة 1932 يشير مؤلفه الدكتور لويه كاردون بأن الملكية الوقفية كانت تصل من ثلث إلى نصف المساحة المستثمرة في لبنان (الكتاب المذكور من ص 105 الى صفحة 111).
في بداية الحديث عن هذا الموضوع لا بد من الإشارة بأن مندرجات هذا العنوان لا تتعلق فقط بمحاسبة المتولي الذي تعهد إليه إدارة أموال الوقف مؤسساته وجمعياته، وإنما يندرج من ضمنها محاسبة كل من يتولى مالاً من الأموال العامة. ولابد من الإشارة أيضاً بأنه يدخل ضمن اختصاص المحاكم الشرعية ووفق صلاحيات القاضي المختص حسب توزيع الأعمال في المحاكم الشرعية ما نصت عليه المادة 17 من قانون تنظيم القضاء الشرعي الصادر سنة 1962 في الفقرة 16 : – عزل الوصي والقيم عن الوصي الغائب ومحاسبتهما وعزل المتولي على الوقف ومحاسبة المتولي على الوقف الذري أو الوقف المستثنى والحكم عليهم بما يلزمهم من المال. كما توجب الشريعة الإسلامية على القاضي محاسبة المتولي الذي يرتكب تصرفات مضرة بالوقف وتعتبره غير مأمون عليه وخائن يجب عزله فيما لو تبين تعمده وسبق إصراره على القيام بهذه التصرفات.
هذا وقد اهتمت الشريعة الإسلامية اهتماماً بالغاً بإدارة الوقف وحسن استثماره ورعايته وصيانته، وذلك حتى يستمر ريعه وصرفه على أعمال الخير والبر على جهة التأبيد، إضافة الى المحافظة على الأهداف التي من أجلها أنشأ الوقف وعدم تحويرها وتحويلها الى أهداف تصطدم مع إرادة الواقف والتي نص عليها الفقهاء بأنها كإرادة الشارع، فاشترطت على متولي الوقف شروطاً عامة وخاصة لا بد من استيفائها لكل من يتولى إدارة هذا الوقف.
فالمتولي هو المسؤول عن إدارة الوقف وممثله أمام الجهات المختلفة يتولى إدارته والإشراف على موارده ومصارفه وحفظ أعيانه واستغلال مستغلاته وصرف ريعه في مصارفه طبقاً لشروط الواقف والأحكام الشرعية ولما يحقق مصالح الوقف والموقوف عليهم.
إضافة إلى الشروط العامة التي يجب أن تتوفر في متولي الوقف اشترط الفقهاء شرطي العدالة والكفاية. فالعدالة تتحقق باستقامة المتولي وأمانته في العمل والأداء والصلاح في أمور الدين. والكفاية هي مقدرة الشخص على إدارة الوقف والتصرف فيما هو تحت يده. وبالتالي فلا يجوز تولية من يثبت عجزه عن إدارته، وهذا الشرط يعتبر شرطاً لصحة التولية عند الأئمة الشافعية والمالكية والحنبلية. والحنفية اعتبروه شرطاً للأولوية وليس شرطاً للصحة.
يلتزم المتولون للوقف بالتزامات إيجابية تحتم عليهم القيام بتصرفات ضرورية لإدارة الوقف. أولى هذه الإلتزامات التقيد المطلق بشروط الواقف وأهدافه المنصوص عنها في كتاب الوقفية، وعدم تعديلها وتغييرها والتلاعب بها واستبدالها. كما يلتزمون بتسديد ما على الوقف من ديون دون إبطاء والعمل على عدم تراكمها حتى لا يحجز على عائدات الوقف مما ينتج عنه فرض أعباء مضاعفة لتسديد هذه الديون، كما يجب عليهم الدفاع عن الأملاك الوقفية كي لا يتجرأ عليه المتجاوزون ويستملكون ما يسهل عليهم امتلاكه، كما يلتزم المتولون بصيانة ورعاية الوقف وعدم تركه دون استغلال أو استثمار. أما الإلتزامات السلبية فتتحقق بعدم قيام المتولي بتصرفات مضرة بالوقف كالتصرف به أو المحاباة في استغلاله من قبل ممن لا تقبل شهادتهم له مثل أولاده وأصوله وفروعه وزوجته، مما يدخل الريبة والتهمة اليه، وقد نصت القوانين في بعض الدول العربية على منع المتولي من أن يؤجر الوقف أو يستثمره لنفسه أو لأحد أقاربه الى الدرجة الرابعة حتى ولو كان بأكثر من أجر المثل.
وأما في الفقه فقد توسع الفقهاء في هذا الموضوع وأفردوا له فصولاً كثيرة: منها ما يتعلق بموضوع من يؤجر له الوقف، ومدة الوقف، و مقدار أجرته واستثمار ريعه. وهذه المواضيع تتضمن أيضاً مسألة قيام الولي بإيجار الوقف لنفسه أو باستخدام أحد أقاربه للعمل في العين الموقوفة أو استثمارها. وكذلك الأمر توسع الفقهاء في موضوع محاسبة متولي الوقف حيث أقرت الشريعة الإسلامية بمبدأ المحاسبة واعتبار متولي الوقف خائناً وإيقاع العقوبة والعزل عليه، ولم تفرّق مطلقاً بين الرؤساء والمرؤوسين، ولا بين أصحاب الدولة وعامة الناس ولا بين الممثلين الديبلوماسيين والرعايا العاديين، ولا بين ممثلي الشعب وأفراده ولا بين الأغنياء والفقراء. في مواقف خالدة وعديدة سطرتها لنا الأحاديث النبوية ما زال صداها ينقل الينا أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل تدخل في نطاق مسؤولية الحاكم وصاحب السلطة والنفوذ. أحد هذه الأحاديث ينقل إلينا حادثة غريمٍ تقاضى النبي صلى الله عليه وسلم في دين فأغلظ عليه، فهمّ به عمر بن الخطاب، فقال له الرسول: «مه يا عمر، كنت أحوج إلى أن تأمرني بالوفاء وكان أحوج إلى أن تأمره بالصبر». وفي موقف آخر للنبي خاطب الناس أثناء مرضه الأخير فقال: «أيها الناس من كنت جلدتُ له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قِبَلي فإنها ليست من شأني، ألا وإنّ أحبكم إليَّ من أخذ مني حقاً إن كان له، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس». وفي موقف ثالث حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تطبيق مبدأ عدم التمييز بين كبار المسؤولين ومن يلونهم ولو كانوا أبناءهم بالذات، ففي يوم سرقت امرأة من أشراف قريش، فتحدث الناس أن رسول الله عزم على إيقاع العقوبة عليها، فأعظموا ذلك وكلموا فيها الرسول، فقام خطيباً فقال: (ما إكثاركم عليّ في حد من حدود الله، وقع على أمة من إماء الله؟ والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد نزلت بمثل الذي نزلت به لقطع محمد يدها).
ولقد نهج الخلفاء بعد رسول الله هذا المنهج فكانت كلماتهم حين مبايعتهم بالخلافة، توكيداً لمعنى المساواة، ونفياً لمعنى الامتياز: يقول أول الخلفاء أبو بكر: يا أيها الناس، قد وُليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. ثم يعلنون في آخر كلماتهم أن من حق الناس الذين اختاروهم أن يعزلوهم من مناصبهم، فيقول أبو بكر: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. كما أن سيرة الإمام علي كرم الله وجهه تذخر بأسمى ما عرفته البشرية من محاسبة النفس والمسؤولين ولو كانوا في قمة السلطة والرئاسة.
وأما موقف فقهاء الشريعة الإسلامية فلم ترق إليه مواقف أكثر الشرائع الحديثة تقدماً، إذ أنهم يسوون كبار المسؤولين في الدولة أو يتصدرون أعلى المراتب في المؤسسة الدينية أو كانوا من أصحاب الشأن في المجتمع، بجمهور الناس حين ارتكابهم الجرائم والمخالفات، ولا يميزونهم عنهم في شيء. فمذهب أئمة المذاهب الفقهية الكبرى مالك والشافعي وأحمد، لا يفرق بين جريمة ارتكبها هؤلاء عن الجريمة التي يرتكبها الأشخاص العاديون. فيرون أن هذه المرجعيات السياسية والدينية مسؤولةٌ عن كل جريمة ارتكتبها سواء تعلقت بحق الله أو بحق الفرد؛ لأن النصوص عامة والجرائم محرمة على الكافة. بل ولم يكتف الفقهاء بتقرير عقوبة المسؤولين السياسيين والدينيين وأصحاب النفوذ وغيرهم على ما يرتكبوه من جرائم، بل بحثوا في ما إذا كانوا ينعزلون بارتكابهم هذه الجرائم، فرأى بعضهم أنهم ينعزلون بارتكابهم المحظورات، وإقدامهم على المنكرات، تحكيماً للشهوة وانقياداً للهوى أو تلاعباً في اهداف الوقف أو تحويل وجهته خارج مقاصد الواقف.
وأما موقف الدولة العثمانية فكان أكثر تشدداً بل وتنكيلاً بكل من يخرج عن حدود الشريعة وعن المبادئ الإسلامية الأساسية وبخاصة إذا كان ينتمي إلى أعلى رتبة في السلك الديني للعلماء، إلى حد أن العقوبات التي أصابت المخالفين لأوامر الدين والشرع خرجت عن حد المألوف المتعارف عليه في إيقاع العقوبة القصوى المنصوص عليها في الشريعة الإسلامية لمثل هذا النوع من الجرائم أو المخالفات.
في كتابه تاريخ مؤسسة شيوخ الإسلام في العهد العثماني كتب أحمد صدقي شقيرات عن حادثة شهيرة هزت أرجاء الدولة العثمانية في القرن السابع عشر عرفت بحادثة شيخ الإسلام فيض الله أفندي. الذي كان يعتبر الشخص التالي من حيث الأهمية بعد السلطان ورئيس الوزراء، وهو المفتي العام لكل الديار العثمانية وصاحب صلاحيات شاملة في الأوقاف الإسلامية والقضاء الشرعي. وقد ألقي القبض عليه لمخالفات شرعية وزج في السجن وعذب طوال ثلاثة أيام إلى أن صدرت الفتوى بإعدامه من قبل شيخ الإسلام الذي تولى من بعده المشيخة. وبما أنه كان ينتمي الى سلك العلماء الذين لا يجوز إعدامهم، عيّن شكلياً محافظاً لإحدى المدن في السلطنة من أجل أن يفقد صفته الدينية، ثم أحضر من السجن وقطع رأسه وعلق على قضيب حديدي وسط هتاف المحتشدين: «هذه هي حال شيخ الإسلام الذي يخون الدولة والدين»، ثم جرت جثته في أنحاء المدينة ثم رميت في النهر.
خلاصة الأمر بأن متولي الوقف إذا أخل بالتزاماته المقررة بموجب شروط الواقف والأحكام الشرعية والقانونية والانظمة وما تقتضيه مصلحة الوقف والموقوف عليه بتجاوزه حدود نشاط توليته المحددة فيها، وجبت محاسبته وعزله وتعيين غيره ممن من يؤتمن على المؤسسة الوقفية.