في حين أقفلت المصارف أبوابها، وأعلنت الإضراب المفتوح، ومَنَعَت اللبنانيين حقّ سحب ودائعهم، التي وقعت تحت قبضة “الهيركات” المُقَنَّع، افتتحت مؤسسة “القرض الحسن” فرعها الجديد في منطقة سوق الغرب – عاليه، كإشارة جديدة إلى تداعي القطاع بشكل شبه تام. وهي تخطّط لفتح فروع أخرى في مناطق مختلفة، ممّا يُشير إلى النمو الذي تشهده المؤسَّسة.
المشهدية لا تعكس سوى صورة واحدة؛ مؤسَّسات الدولة الماليّة تنهار فيما مؤسَّسات “حزب اللّٰه” تنشط وتنمو. ما يحصل ليس وليد صدفة، ولا نتيجة معطيات اقتصادية، بل هو المشهد الذي أراده الحزب، ومن أجله عمل على تغيير وجه لبنان التقليديّ، “الدويلة فوق الدولة”، في السياسة والأمن، والاقتصاد، وبات يطرح نفسه من خلال مؤسّساته، بديلًا عن الدولة وأجهزتها.
موقع يُثير التساؤلات
إضافةً إلى ذلك، من الضروري التطرّق إلى موقع فرع “القرض الحسن” الجديد، في سوق الغرب. من المعروف أنها منطقة لا تقع في نطاق رقعة انتشار “حزب اللّٰه” جغرافيّاً، لا بل إنَّها منطقة ذات أغلبية مسيحيّة، وفي محيطها قرى درزية، باستثناء منطقتين شيعيّتَين، هما كيفون والقماطية، في قضاء عاليه. المقصود من ذلك أنّ المؤسسة ليست في بيئتها الحاضنة، بل في أخرى معارضة لسياسات “حزب اللّٰه”، وفي هذا إشارة مهمَّة.
لا يخرج فعل افتتاح الفرع الجديد عن سياق توزيع المساعدات في عكّار بعد انفجار التليل، أو توزيع المازوت الإيراني في عدد من المناطق اللبنانية، ويندرج ضمن مسار واضح، شعاره “تمدُّد” الحزب نحو البيئات الأُخرى بوساطة المساعدات الاقتصادية والاجتماعية، وهو الباب الأسهل حالياً لاستقطاب الجماهير في ظِلِّ الظروف المعيشيّة الصعبة الراهنة، وحاجة اللبنانيين إلى كُلِّ مساعدة تمنحهم القدرة على الصمود.
لكن نشاط مؤسسة “القرض الحسن” لا يتوقف عند هذا الحدّ، بل ثَمَّة خطط لفتح 4 أفرُعٍ أُخرَى في مناطق مختلفة، وفق ما يكشف مكتبها الإعلامي لـ”النهار”، الذي يُشير إلى أنه “لا مانع من افتتاح فروع على مساحة لبنان، لا بل ذلك ممكن جدًا”. وكلّ هذا يعني أن النشاط مستمرّ وبوتيرة مرتفعة، ما دام ثمّة خطط للتطوُّر والانتشار أكثر.
ما سبب النمو في ظل انهيار القطاع المصرفي؟
مصادر مصرفية توضح سبب تطوّر هذه المؤسسة المالية، في وقت ينهار فيه القطاع المصرفي في لبنان، وتُشير إلى أن “مؤسسة “القرض الحسن” استفادت من ضعف المصارف وتراجع دورها من خلال عدم القدرة على منح القروض، فورثت هذا الدور وبدأت تمنح التسليفات للبنانيين مقابل رهن ذهب أو أملاك”.
تذكر المصادر نقطة مهمّة، وتلفت إلى أنّه “في وقت خسرت فيه المصارف جزءاً كبيراً من أموالها بالدولار، فإنّ مؤسسة “القرض الحسن” لم تتكبَّد أيّ خسائر نتيجة الانهيار، لأنّها ليست مؤسّسة مصرفية بل مالية، ولا تمنح القروض من أموال مودعين، بل إنها تُقرض المال وتحتفظ بالأموال المرهونة (ذهب – عقار…)، وتستوفي المبلغ؛ وفي حال لم يدفع الزبون القرض، يتمّ اللجوء إلى بيع الذهب أو العقار، فتكون المؤسسة قد استرجعت مالها ولم تخسر”.
هنا، تُشَدِّد المصادر على أنَّ “مؤسسة “القرض الحسن” ليست مؤسّسة مصرفيّة، بمعنى أنها لا تحتفظ بودائع (كما حال المصارف التي خسرت أموالها ولا تستطيع ردّ الودائع لأصحابها)، بل مؤسّسة ماليّة تُقرض مقابل رهن، ولا مال لمودعين لديها لتخسره”، كما تلفت إلى الدّعم الخارجيّ لها المستمر، وهذا من عوامل صمودها أيضًا.
وعن علاقة المؤسسة نسبياً، بشكل أو بآخر، بانهيار القطاع المصرفي، تنفي المصادر وجود أي علاقة مباشرة في السياق الاقتصادي، “لأنَّها خارج النظام المصرفيّ أساسًا، وليست مؤسّسة مرخّصة من قبل مصرف لبنان، ومساحة عملها أصغر بكثير من مساحة عمل المصارف، وهي لا تراسل مصارف في الخارج، وبالتالي لا تأثير لها”، لكنّها تُحِيل الموضوع بِرُمَّتِهِ إلى السياسة، وتقول “قد يكون ثمّة علاقة بين الجهة المسؤولة عنها (أي “حزب اللّٰه”) وانهيار القطاع المصرفيّ”.
وعن التعامل مع المؤسّسة وخطورته نسبةً لإدراجها على قوائم العقوبات، تلفت المصادر إلى أنَّ “ثمَّة مخاطر عديدة من الواجب التحذير منها، أوَّلُها عدم قانونية المؤسسة، وعدم القدرة على ملاحقتها ومحاسبتها أمام القضاء، في حال مواجهة المقترض أيٍّ مشكلات في التعامل معها، لأنَّها غير مُرَخَّصة من قبل مصرف لبنان، وهي تعمل بشكل كلّي خارج القانون، وثانيها احتمال تعرّض العملاء لعقوبات بسبب تعاملهم مع مؤسّسة معاقبة”.
لكن المصادر تستطرد، وتقول: “حتى الساعة، لم نسمع بأيِّ مشكلات واجهت العملاء، ولم نسمع بعمليات نصب واحتيال قامت بها المؤسسة، بل على العكس، فإنَّها تؤمِّن مخارج لمواطنين يعانون من ضيقة ماليّة، وثمّة ثقة بين العملاء والمؤسّسة، لأنها لم تخسر أو تنكسر كحال المصارف، أمّا بالنسبة للعقوبات، فإن نسبة كبيرة من عملاء المؤسسة هو مقترضون صغار، أفراد أو مؤسسات متواضعة، وهؤلاء بعيدون عن خطر العقوبات”.
كيف تقرأ السياسة هذا النمو؟
للسياسة وجهة نظر أخرى حول مؤسسة “القرض الحسن”، تعود بنا إلى تاريخ 17 تشرين 2019. في ذلك الحين، استثمر “حزب اللّٰه” في الانتفاضة، التي اندلعت في الشارع، للتصويب على القطاع المصرفي، وأرسل عددًا من شبّانه للانخراط بالتحرّكات الحاصلة، على أساس أنهم منتفضون، وتوجيه الاحتجاجات ضد المصارف، فضلاً عن إثارة الشغب والعنف في فروع تابعة للمصارف.
رافق التيار “الوطني الحر” الحزب في مهمة ضرب القطاع المصرفي، وفي حين كان يشنّ أشرس الحملات على مصرف لبنان، كان يتغاضى بشكل تام عن مؤسسة “القرض الحسن” التي تعمل بشكل غير قانونيّ، فلم تقتحمها غادة عون كما فعلت بشركة مكتّف، ولم يهاجمها جبران باسيل وميشال عون كما هاجما رياض سلامة. ولثنائي مار مخايل هدف واحد ومحدّد، تدمير القطاع وتحميل مصرف لبنان وحاكمه مسؤولية الانهيار، للإطاحة بسلامة الذي يُقال إنَّه يحظى بدعم أميركي، وتعيين حاكم آخر ماروني مقرّب من التيار، وجرى التداول باسم الوزير السابق منصور بطيش.
كل ذلك كان من أجل الاستئثار بالموقع، وضمّ القطاع المصرفيّ بشكل أو بآخر إلى منظومة محور الممانعة، للاستفادة من الدور المالي الواسع الذي يؤدِّيه القطاع، خصوصًا أن الحزب كان يعاني العقوبات القاسية جرّاء سياسة “الضغط القصوى” التي كانت تعتمدها واشنطن ضد إيران وأذرعها، وكان قد حاول الهرب منها من خلال “جمّال ترست بنك”، الذي أُقفل جرَّاء العقوبات الأميركية.
دأب الحزب على تدمير القطاع المصرفي أثناء سيره في طريق تغيير وجه لبنان، وأطلق رصاصة الرحمة عليه مع حكومة حسان دياب، وهي حكومة اللون الواحد التي جرت إدارتها من حارة حريك، والتي أعلنت التخلُّف عن دفع سندات اليوروبوندز، فتمّ تخفيض تصنيف لبنان الائتماني، وتفاقمت أزمة المصارف.
الهدف من تلك المقدمة تسليط الضوء على دور “حزب اللّٰه” في انهيار القطاع المالي، ويُمكن الانطلاق من ذلك للربط بين الانهيار المذكور والنمو الحاصل لدى “القرض الحسن”. تطوّر عمل المؤسسة واتساع رقعة انتشارها يعني الوصول إلى عدد أكبر من المستفيدين، والهدف من خلف ذلك استقطاب مؤيدين أو متعاطفين أكثر لجهة الحزب، الذي “يضرب على الوتر الحسّاس”، ويصل إلى الناس من بوابة المساعدة المالية.
ومع افتتاح مؤسسة “القرض الحسن” لفرعها الجديد في سوق الغرب، والإعلان عن افتتاح 4 أفرع جديدة في المدى المنظور، فإن ذلك يُشير إلى خطط للتوسُّع و”التمدُّد ماليًا” في مناطق لا تخضع لنفوذ “حزب اللّٰه”، بل إلى مناطق ذات أغلبيّة شعبيّة معارضة له، بهدف استمالة عدد من سكّان هذه المناطق، خصوصًا أن الظروف المعيشيّة الصعبة قد تدفع بالناس إلى الاستفادة من تقديمات المؤسّسة، حتى ولو كانوا معارضين لسياستها.
مصادر أهلية في منطقة عاليه تُشير إلى أن “حزبي “القوات اللبنانية” و”التقدمي الاشتراكي” يتمتعان بالجماهيرية الأوسع في المنطقة، كما أن ثمّة وجوداً أقلّ كثافة لـ”التيار الوطني الحر”، والحزب “الديموقراطي”، و”حزب اللّٰه”، ممّا يعني أنَّ الأغلبيّة معارضة للحزب وسياساته”.
لكنها تنفي في حديث مع “النهار” مقاطعة الأغلبية لهذه المؤسسة، بل تلفت إلى نقطة مهمّة، وتقول “إن الظروف المعيشية الصعبة، وحاجة الناس إلى تأمين قُوت يومها، ومستحقات مدارس أبنائهم، قد تدفع بهم إلى التوجّه والتعامل مع مؤسسة “القرض الحسن” أو أيّ مؤسّسة أخرى تؤمّن لهم دخلاً دون إذلال، خصوصًا أنَّ العملية مع المؤسسة المذكورة تجري بمهنيّة، ولا يتعرَّض العملاء للإهانة، بل إنّهم يقترضون مقابل رهن، وهذا يُشجّع نسبيًا على التعامل”.
لكن المصادر تؤكّد أن ثمّة فئة أخرى لا ترغب في الاستفادة من خدمات هذه المؤسّسة، لأنّها فئة معارِضة لسياسات “حزب اللّٰه”، ولا ترغب في “تنفيع” مؤسّساته”، وستكون الأعين شاخصة في الأشهر المقبلة على نسبة التفاعل والتعامل مع فرع المؤسسة الجديد في سوق الغرب، والفروع الأربعة التي سيتم افتتاحها.
في الختام، فإنَّ مشهد تطوُّر مؤسسات “الدويلة” في زمن تداعي مؤسسات الدولة ليس صِحِيًّا، بل يؤشِّر إلى معطيات خطيرة، تزيد خطورتها في حال انسحب موضوع الاقتصاد على الأمن، وعَمِلَ “حزب اللّٰه” على إفراغ المؤسسات العسكرية، وبالأخص الجيش، وطرح نفسه بديلًا حاميًا للأمن نسبةً لقدراته، كما فعل حينما قدَّم نفسه على أنَّه بديلًا للمقاومة الوطنية والجيش في الجنوب، وبات “قوى الأمر الواقع”.