
كتب أحمد الأيوبي
تضع أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا العالم أمام تحديات غير مسبوقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991، خاصة أنّها تعيد مخاطر فرض التغييرات الجيوساسية بالقوة العسكرية وتضرب النظام الدولي القائم على الاعتراف بسيادة وحدود الدول القائمة واستقلالها، وهذا يهدِّدُ بانهيار المنظومة الدولية القائمة وانفلات الأنظمة العسكرية لتحقيق أطماهعا الامبراطورية والانقضاض على الدول التي تعتبر أهدافاً متوقعة ضمن الأحلام التوسعية لهذه الأنظمة.
أراد الرئيس الروسي أن يغتنم ما يراه من ضعف وخور في الموقف الغربي عموماً والأميركي خصوصاً، ليستأنف رحلة استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي الذي جعل النظام الاشتراكي وسيلة أيديولوجية ليحكم الروس دولاً أطاحوا بأنظمتها السياسية والاجتماعية وبهوياتها الدينية والثقافية.
يُشهر بوتين اليوم الحرب بلا قفازات ولا واجهات، يرفع شعار الدفاع عن “المسيحيين الأرثوذكس” في أوكرانيا وسائر الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفياتي السابق، ليخوض حرباً مذهبية مسيحية ضد مسيحيين آخرين، يريدون الانعتاق من الحكم الديكتاتوري السائد في روسيا ولا يتحمّلون العيش من جديد في ما يشبه السجن السوفياتي الذي عانوا منه عقوداً طويلة من الزمن.
ينظر المراقبون إلى ما يجري في أوكرانيا على أنّه تهوّر من الرئيس والحكومة في هذا البلد، وأنّ الجيش الروسي سيسحق مقاومة الجيش والشعب الأوكراني بسهولة ويُسر، وسيبسط بوتين سيطرته على هذه الدولة خلال ساعات من بداية الغزو، لكنّ هذه النظرة تحمل الكثير من عوامل التبسيط والتسطيح للوقائع والخلفيات.
أميركا تعاقب أوروبا وتستدرج بوتين
في رؤية مخالفة لما هو سائد من تحليلات، ثمة معطيات تشير إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية تريد تأديب أوروبا بسبب نوعتها الاستقلالية عنها، ونزوعها نحو تشكيل جيش أوروبي موحد وإبداء علامات تمايز كبيرة في سياساتها الخارجية عن سياسات واشنطن في العالم، وذلك من خلال إغراء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا، وبهذا ينكشف الأوروبيون أمام القدرات والتهديد الروسي، ويتورط الروس في مستنقع يخسرون فيه هيبتهم وقدراتهم الاقتصادية.
حقائق في قلب الصراع
بتشجيع الغزو الروسي لأوكرانيا، وتمادي بوتين في تظهير أسلحته الفتاكة الحديثة، والتباطؤ الظاهر في دعم سلطات كييف، اندفع الروس أكثر في عملية عسكرية، يكتشفون تدريجياً أنها ليست بالبساطة التي تصوروها، ومع مرور يوم إضافي من المواجهات، اتضح الآتي:
ــ أنّ خسائر الجيش الروسي كبيرة في الأرواح والطائرات والآليات، وأن المقاومة الأوكرانية صلبة ولم تسقط المدن بشكل تلقائي أمام الروس.
ــ أنّ عمليات الدعم الغربية لأوكرانيا بدأت تتحرك عسكرياً وهذا ما ظهر من خلال إعلان بولندا تأمين 200 صاروخ مضاد للطائرات لصالح الجيش الأوكراني وبدء تحرّك إمدادات أخرى منظورة وغير منظورة.

وفي المقابل، سيؤدي تهديد موسكو للأمن الأوروبي إلى مسارعة دول القارة العجوز للاستنجاد بواشنطن ولإعادة مظلة حلف الأطلسي فوق أوروبا، واستبعاد سياسات التمايز عن الولايات المتحدة.
الواضح الآن أنّ بوتين دخل المستنقع وأنّ الدعم بالسلاح والعتاد ومقومات المواجهة ستتدفق نحو أوكرانيا بشكل متسارع، ولن تستطيع الحملة الروسية العسكرية تحقيق أهدافها بالسرعة المرسومة لها من الكرملين، وكلما تأخر تحقيق الأهداف، ازدادت فرصة أوكرانيا في المواجهة.

اللافت للانتباه هو صمود الرئيس الأوكراني وشجاعته في المواجهة، والأهم هي تلك الإرادة الشعبية الواضحة في رفض الاحتلال الروسي والإصرار على القتال من الجميع، ونجاحهم في تكبيد الروس خسائر عرقلت وتعرقل التقدّم الروسي، خاصة أنّ موسكو لا تستطيع استخدام الإبادة وسياسة الأرض المحروقة في أوكرانيا، كما سبق أن فعلت في سوريا، وبينما يتواصل تكبيد الروس الخسائر يستمر التساؤل عن قدرات الجيش الروسي الذي يفوق الجيش الأوكراني بعشر مرات.
أكبر عقوبات في التاريخ تنصبّ على روسيا
في الأبعاد الاقتصادية، وبغضّ النظر عن النتائج العسكرية للغزو الروسي لأوكرانيا، امتلكت الإدارة الأميركية ذريعة لتحطيم الاقتصاد الروسي الذي سيواجه أكبر وأخطر عقوبات في التاريخ، فهي مفروضة من أكثرية الدول الكبرى باستثناء الصين وإيران وبعض الدول الهامشية، كما يقول الخبير القانوني والاقتصادي عمر البيسار الذي يوضح أنّ “أيّ أصول حكومية أو استثمارات شبه حكومية في الخارج تم تجميدها، أيّ مبالغ يتمّ تحويلُها معرضةٌ للمصادرة دون مقابل، وأيّ صفقات تزويد وإمداد معرّضة للفسخ، والتضخّم بدء منذ الأمس والبطالة سترتفع غدا، وهذه المرة المواجهة طويلة الأمد قد تكون قاضية للنظام الروسي .
يختم البيسار بالإشارة إلى أنّ روسيا لم تكن يوماً قوةً اقتصادية مزعجة، بل إنّ العين فعلياً هي على فرملة وعرقلة أكبر مبادرة هيمنة اقتصادية في التاريخ وهي مبادرة الصين للحزام والطرق.
هذه الأبعاد التي تتقاطع في الصراع الدائر على أرض أوكرانيا اليوم، لن تتوقف، على أيّ حالٍ كان وضع النتائج العسكرية للغزو الروسي.