Mr. Jackson
@mrjackson

في الطريق إلى الرئاسة: “كلّو في حبك يهون”

كتب الدكتور عارف العبد

في “المدن”:

كان لبنان على الدوام، إن في السابق أو في الراهن، نقطة تقاطع في المواقف، والمصالح الإقليمية، والمحلية والدولية.

هذه الوضعية مردها إلى عاملين اثنين هما: تركيبة لبنان الطائفية المتعددة، التي هي نقطة قوة وضعف في آن واحد، إضافة إلى موقعه الجيوسياسي الذي يحتم عليه التعرض لكمية هائلة من الضغوط الإقليمية والدولية.

اتصف الساسة في لبنان والعمل السياسي بشكل عام، في الخلط العجيب والدائم، بين المبادىء والمنطلقات والمصالح والأساليب والغايات، وعدم الركون إلى موقف أخلاقي وسياسي بشكل ثابت ومتين. إذ أن الذهنية السياسية المسيطرة تميل إلى اعتبار التشاطر والتلاعب والمقايضة، طريقة للحياة والعيش والنجاح، بدلاً من الالتزام والثبات على الموقف.

ومرد هذا الكلام الآن الدهشة التي أصابت الرأي العام حين خرج الرئيس العماد ميشال عون عن الموقف الذي كان متداولاً ومعتمداً طوال فترة ليست قصيرة، بخصوص أساس ومنطلق المفاوضات غير المباشرة من أجل ترسيم وتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة الجنوبية للبنان، والتي قد تحتوي على حقول مشتقات بترولية أو مخزون من النفط والغاز.

صحيح أن الاستكشافات الأولية الافتراضية المتعددة الأبعاد تشير إلى احتمالات واعدة بوجود مخزون نفطي غير محدد، لكن الحسم النهائي بوجود ثروات في باطن الأرض اللبنانية يؤكدها فقط الحفر الجدّي الذي يعطي الجواب الواقعي.

موقف الرئيس الذي اعتبر أن النقطة 23 هي حدودنا الفعلية، أصاب الكثيرين بالدهشة، وعُدَّ هذا الأمر بمثابة تراجع عن موقف لبنان، وتخلياً عن حقوق سيادية أو تفريط بها، بعد أن كان لبنان تفاوض انطلاقاً من أن حدودنا هي انطلاقاً من النقطة 29.

والحقيقة، أنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها لبنان مواقف متغيرة إزاء مواضيع سيادية وحساسة، وقد اعتاد القادة في هذا البلد استخدام كل المواضيع والقضايا الوطنية وسائل لهم من أجل الوصول إلى مصالحهم، بغض النظر عن النتائج والتضحيات. فليست السيادة والحقوق الوطنية وغيرها من المواضيع التي تعتبر مهمة، سوى مطايا للوصول إلى الأغراض والأهداف السياسية لهذا السياسي أو الزعيم الراغب في الوصول إلى موقع أو مركز ما.

استخدام المواضيع السيادية تصعيداً أو تراجعاً، لم تكن في أغلب الأوقات إلّا حّجة أو وسيلة للوصول إلى المبتغى المنشود.

تجربة الوصول إلى اتفاق القاهرة الشهير لا تزال ماثلة في الأذهان والذاكرة اللبنانية.

في العام 1969 حين اندلعت الأزمة الوطنية السيادية مع المنظمات الفدائية الفلسطينية المسلحة، أوفد الرئيس شارل حلو إلى القاهرة، العاصمة الإقليمية المؤثرة آنذاك في لبنان، قائد الجيش إميل البستاني للتفاوض مع ياسر عرفات بوساطة وزيري الدفاع والخارجية المصريين محمود رياض ومحمد فوزي. وكل ذلك تحت إشراف ومظلة الرئيس المصري المبهر والمؤثر جمال عبد الناصر.

كان عبد الناصر قد لعب دوراً أساسياً في انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية اللبنانية، وفي إنهاء آثار أحداث ما سمي ثورة 1958، بتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية، خلفاً للرئيس المشاكس آنذاك كميل شمعون.

النتيجة التي انتهت إليها مباحثات العاصمة المصرية هي “اتفاق القاهرة”، والذي اقتطع حصة أو قطعة من السيادة اللبنانية لمصلحة حرية العمل الفلسطيني المسلح انطلاقاً من جنوب لبنان. وهو ما أفسح المجال فيما بعد لتضخم النفوذ الفلسطيني المسلح، ومن ثم انفجاره وتفجيره للمشكلة الداخلية اللبنانية، التي تطورت إلى حرب أهلية بدأت في 1975 وانتهت في 1990 مع اتفاق الطائف.

أغلب الأبحاث والمعلومات المنشورة والمتداولة عن تلك المباحثات في القاهرة تسجل دوراً في الدفع الإيجابي لقائد الجيش آنذاك في التوصل إلى الاتفاق، وفي “بحبحة” التساهل مع الدور والنفوذ الفلسطيني، على أمل أن يرضى عنه عبد الناصر وياسر عرفات في تأييد وصوله إلى سدة الرئاسة الأولى.

لم يحقق المفاوض اللبناني الذي وقف خلف الاتفاق أهدافه، فدخل لبنان في مرحلة لم يخرج منها إلا بخسائر هائلة ومعروفة.

قبل وصول العماد إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية سجلت مجموعة من الأحداث البارزة والمهمة، تتصل بموضوع السيادة والحفاظ عليها، أبرزها قصة الخرائط الحدودية المتصلة بمزارع شبعا.

بينت الوقائع، أن اعتبار مزارع شبعا من الأراضي اللبنانية المحتلة والمطالبة بتحريرها، لم تكن مدرجة على جدول أعمال الخطاب الوطني المقاوم، إلى أن اقترب الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان تنفيذا للقرار الدولي 425. مما كان يعني آنذاك قرب الانتقال اللبناني للمطالبة بالانسحاب السوري. هنا وبسحر غايات متعددة لبنانية وسورية ظهرت خرائط كانت مغمورة وغير مرئية، تقول أن مزارع شبعا أراض لبنانية وجب تحريرها. وحتى الآن، لبنان وسوريا يقولان علناً إنها أراض لبنانية، لكن سوريا التي انشرحت أساريرها بالخرائط المكتشفة، لا تعطي لبنان حتى الآن أي وثيقة رسمية تحسم لبنانية المزارع.

قصة الحدود و السيادة والخرائط اللبنانية قديمة العهد وليست بنت ساعتها.

يروّج البعض، وهم كثر، أن موقف رئيس الجمهورية الجديد من الخطين 23 و29 إنما تقف خلفه أهداف سياسية تتصل بموقع جبران باسيل ومصالحه.

والتبدل الذي استجد في الموقف، إنما جاء أملاً بإفساح الطريق أمام الوريث المقبل للوصول إلى كرسي الرئاسة الأولى، بعد رفع العقوبات الأميركية. فمن أجل الوصول إلى بعبدا كل أمر جائز و”كلّو في حبك يهون”. ولو اقتضى الأمر التبديل والتغيير في المواقف وبعض الخرائط والنقاط.

هل تنجح هذه المناورة الالتفافية العونية والتراجعية في تبديل الأمر السلطاني الأميركي بعد أن صدرت القوانين والعقوبات؟

أحد المسؤولين في الإدارة الأميركية قال قبل أيام تعليقاً على هذه النظريات:

في لبنان شائعات كثيرة، كل يوم شائعة جديدة!

لكن رهان عون هو على الحليف الذي يفاوض في فيينا فكيف ستكون النتيجة؟ ما علينا إلا الانتظار لبعض من الوقت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *