Mr. Jackson
@mrjackson

لبنان منصة اشتباك لا كدولة ذات سيادة

رامي سعدالله فنج

لطالما عاش لبنان على تخوم الزلازل الجيوسياسية. لم يكن طرفًا في الحروب التي اندلعت على أرضه، بل كان ضحيتها المفضّلة، ومختبرًا لصراعات لم يكن له فيها ناقة ولا جمل. وما نشهده اليوم هو استعادة مأسوية لمشهدٍ عرفه اللبنانيون مرارًا: الجنوب يحترق، العاصمة تتفرّج، والقرار ليس لبنانيًّا. لكن ما يميز اللحظة الراهنة هو أننا لا نشهد فقط اشتباكًا تقليديًّا بين المقاومة والاحتلال، بل مواجهة كبرى بين محورين إقليميين ودوليين، تجري فوق أرض مشروخة، دون قدرة الدولة على لجم أو توجيه مسار الأحداث.

في هذا السياق، يبدو لبنان كضحية كبرى لهذا الصراع الجيوسياسي. فالدولة المغيبة:

” لأن سلطة الفساد تُشبه النعامة، تُظهر جسدها الملوّث علنًا وتدفن رأسها في الرمل، هاربة من المسؤولية والمحاسبة الآتية..”.

الجيش مكبل، المؤسسات مفككة، والناس في ذعر دائم. وفيما تُقصف القرى الحدودية يوميًا، تواصل السلطة سياستها “الإستنكارية” كأن الأمر لا يعنيها. لبنان لم يعد قادرًا على تحديد مصيره، بل هو الآن مجرد ساحة لصراعات تتجاوز حدود الدولة ومؤسساتها، على الرغم من أن أرضه وأهله هم الضحايا الأساسيين.

لكن الجديد في هذه اللحظة أن الصراع بات يتجاوز الحدود التقليدية ليمتد إلى مستوى أوسع. إذا كانت الحرب على غزة اليوم ليست مجرد جولة عنف عابرة، بل هي لحظة انتقال إقليمي تشتبك فيها المصالح الكبرى، فإن لبنان يُعاد تموضعه في معادلة إقليمية جديدة. إسرائيل تخوض حربًا على مستقبل موقعها، لا على حماس فقط، بينما ترى إيران في إطالة أمد الاشتباك ورقة ثمينة على طاولة المفاوضات النووية، وتُبقي جبهات المقاومة في حالة تعبئة مستمرة.

وفي هذا المشهد، يُعتبر حزب الله ليس فقط لاعبًا عسكريًا بل أيضًا مفاوضًا بالدم، يُطلق النار ليقول: “أنا موجود في حساباتكم، فلا تتجاوزوني”. وهو في ذلك يمارس جزءًا من اللعبة الجيوسياسية التي تتخطى حدود لبنان، في وقت لا يملك فيه لبنان من أدوات الصمود سوى الشعب الذي اعتاد الحياة على الرماد.

ومع تصاعد التوترات وتعدد الأطراف الفاعلة في هذا الصراع، تبرز المناورات العسكرية التي ستُجرى في اليونان كجزء من الاستعدادات المبطّنة لاحتمالات التصعيد الإقليمي. هذه المناورات، التي تشارك فيها قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، فرنسا، إسرائيل، قطر والإمارات، ومصر، ليست مجرد تمرين تقني أو عرض قوة تقليدي، بل هي رسالة سياسية واضحة: التحالفات تتبلور، والجهوزية ترتفع، والساحات تُرسم بالنار والمناورة.

إن هذه المناورات تؤكد أن المعادلات الجديدة في الشرق الأوسط تُبنى على الأرض، حيث تلتقي الأسلحة مع السياسة، وتُشكّل الجغرافيا رقعة شطرنج جديدة قابلة للتغيير الدرامتيكي. أهداف المناورات متعددة. أولًا، هي إظهار الجهوزية العسكرية والتكامل بين القوات المشاركة، خصوصًا بين إسرائيل والدول العربية التي كانت على خصومة تقليدية معها. ثانيًا، هي إرسال إشارات ردع إلى محور المقاومة، خصوصًا إذا ما تطورت المعركة في الجنوب اللبناني إلى ما بعد الاشتباك الموضعّي و خطر تحولها الى حرب ابادة “غزاوية”. ثالثًا، هي تعزيز حضور الدول المشاركة في المعادلة الأمنية للشرق الأوسط، وتثبيت مواقعها في توازنات ما بعد بعد بعد غزة.

أما الدول المشاركة في هذه المناورات، فلكل منها دلالة معينة في سياق هذا التحول الإقليمي. الولايات المتحدة، التي تحاول تثبيت نفسها كقوة لا غنى عنها رغم خطاب الانسحاب، تُدير اللعبة من فوق، وتبقى القادرة على تغيير مسار الأحداث في المنطقة. فرنسا، التي تحاول الحفاظ على موطئ قدم في شرق المتوسط، تسعى إلى استعادة دورها بعد تراجع تأثيرها في لبنان. الإمارات ومصر، في المقابل، تحاولان تأكيد موقعهما في محور “الاستقرار” في مواجهة “محور الممانعة”، بينما إسرائيل تستخدم المناورة لتثبت أنها ليست معزولة رغم ما ارتكبته في غزة، بل لا تزال شريكة في نظام إقليمي تدعمه قوى كبرى.

وفي حال انفجرت الحرب الكبرى، ستكون هذه المناورات مرآة لما قد يحصل: تحالفات، غرف عمليات مشتركة، وانخراط مباشر أو غير مباشر في المعركة، بما يجعل من أي مواجهة شاملة في لبنان تجاوزًا لحدود الدولة الصغيرة، نحو حرب إقليمية على طراز جديد. حينها، قد تجد الدول نفسها في مواجهة لا تحكمها الحدود الوطنية، بل مصالح محاور إقليمية ودولية تتقاطع فوق أرض لبنان.

ما يحصل في لبنان اليوم ليس مجرد صراع بين ميليشيا واحتلال، بل هو جزء من لوحة جيوسياسية أكبر، حيث يظل لبنان على هامش الفعل، بينما تُدار حربه من خارج حدوده.

لبنان لم يعد يملك ترف تقرير مصيره. لقد فقد حتى رمزية الدولة، وصار مجرد منصة لتصفية الحسابات الإقليمية. ما تبقى من الدولة هو شعب لا يزال يعيش على الرماد، لكنه يعرف جيدًا أن لا إنقاذ للبنان ما دام مجرد ساحة صراع مفتوحة لا مشروع لها.

السيادة، في هذا السياق، أصبحت ترفًا فكريًا لا أكثر.

لا يمكن للبنان أن يظل عالقًا في حلقة مفرغة من الصراعات الإقليمية. ولبناء هذا المسار، يتطلب الأمر إرادة سياسية حقيقية، سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي، ليصبح لبنان مرة أخرى دولة فاعلة في صياغة مستقبلها، وكي تتحول السيادة من ترف إلى واقع حقيقي يُعاش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *