مصطفى شريف
كرصاصة محتل عمياء، لا تعرف للشفقة أو الرحمة من مطرح، نزل على أسماع العالم أجمع، وقع خبر اغتيال صاحبة الصوت الأجش، والشاهدة لسنوات عديدة على جريمة الإنسانية الأكبر والأطول على مر التاريخ.. الإعلامية الفلسطينية الشهيدة البطلة الزميلة شيرين أبو عاقلة..
شيرين التي كانت، وستبقى في الذاكرة العربية والعالمية، صوتاً لحقيقة مُحتل أرعن، يقتل دون رأفة بكبير أو صغير، لا فرق عنده بين البشر ولا الحجر، يغتال هذا ويهدم ذاك، هاله وأهابه وأرعبه، بل أذلّه لسنوات صوت شيرين “البطلة”، التي كانت تنقل للعالم عبر هواء محطة “الجزيرة” الفضائية، إرهاب الكيان الصيوني، الذي بنى وطناً مزيّفاً على أرض اغتصبها من أهلها، بقرار ممَّنْ لا يملك إلى مَنْ لا يستحق.
شيرين لن تكون شهيد الإعلام والعروبة والإنسانية الأخيرة، في مواجهة آلة القتل الإرهابي الصهيوني، بل استحالت نجمة في سماء الأبطال الذين ارتقوا، خلال مواجهتهم كياناً لعنه رب العرش العظيم في كتابه الأكرم إلى “يوم يُبعثون”.
كبرنا وترعرعنا على صوت الحجارة المقذوفة من أيدي أطفال، نموا على عشق الأرض والتراب الأسمر، ودفعوا ذوداً عنه الغالي والنفيس، فهانت الروح ورخصت الأنفس، وارتفعت هامات الشهداء الأبطال، مُكلّلة بتيجان من غار، تستقبل ملائكة السماء بالترحاب، مكبّرين “لا إله إلا الله.. والشهيد حبيب الله”، وهو سبحانه القائل في مُحكم تنزيله {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ{ (آل عمران 169).
كانت شيرين من الرعيل الأوّل من المراسلين الميدانييّن لقناة “الجزيرة”، التي التحقت بها عام 1997، أيّ بعد عام واحد من انطلاقها، بعدما كانت تعمل في إذاعة فلسطين وقناة عمان الفضائيّة، وطيلة ربع قرن من الزمن، كانت أبو عاقلة في قلب الخطر لتغطية حروب وهجمات واعتداءات الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، إذ كان حدسها الصحفي منصرفاً إلى رواية القصة بدلاً من التعليق عليها وإلى نقل التفاصيل ومطاردتها من دون التكهّن بتطوّراتها والبحث في آفاقها، كما كان همّها تقصّي السبب ومعاينة السياق وتأصيل الحدث أكثر من التعليق أو التحوير أو التدوير.
“أيقونة فلسطين” نامت بـ”رصاصة متفجّرة” وجّهها نحو رأسها مباشرة جنديٌ صهيونيٌ لعين، مُستغلاً ضعف الخوذة والسترة الواقيتين في مواجهة الرصاص الحارق الخارق المتفجّر، ليؤكد دون أنْ يقصد – وللكون أجمع – بشاعة إجرام الكيان العبري القاتل، الذي يُدبّر بدم بارد جرائمه، التي ليس آخرها حتماً عملية القنص المباشرة إلى رأس شيرين، الذين هالهم وعيه وتفكيره وحسن تدبير وترتبيه لصياغة خبر اعتداء أو اغتيال أو هدم ضد إخواننا من الشعب الفلسطيني الحبيب.
دماء شيرين لا يجب أنْ تذهب هدراً أو أنْ نكتفي بالوقوف على الأطلال، والبكاء على شهيدة جديدة ارتقت إلى جوار بارئها، بعدما سبقها الكثير من الأبطال، إعلاميون كانوا أو مُصوّرون، أو مُسعفون وأطباء، وسواهم من الجيوش المدنية المواجِهة على خط النار الأوّل.. رحم الله الزميلة شيرين أبو عاقلة وأسكنها فسيح جنانه شهيدة، دمها يشهد عنها أمام رب العرش في يوم العرض الأكبر.
