رامي فنج

في لبنان، كل شيء مؤجل، باستثناء الموت. خمسون عامًا وأكثر، والشعب اللبناني يستيقظ على قلق الفجر و يخلد إلى فزع المساء. ليس خوفًا من المجهول، بل من المعلوم إلى حدّ الابتذال: انفجار هنا، انهيار هناك، حرب محتملة، أزمة لا تنتهي، وزعيمٌ يطالب بالمزيد من الصبر، لأنه وحده، كما يزعم، يملك مفاتيح الخلاص.
انه الخلاص المؤجلً إلى الأبد، إنها البطولة التي لا تتحقق إلا بالموت.
منذ عقود، لم يُترك أمام المواطن اللبناني سوى خيارين: أن يكون وقودًا لحروب غيره، أو أن يكون منفيًا. البطولة، كما صوّرتها أيديولوجيات الطوائف والمليشيات، هي أن يموت الشاب ليبقى الزعيم، أن يُفقر الفقير ليزدهر الحزب او التيار او تيار التيار، وأن يُدفن المواطن تحت الركام. هذه هي البطولة التي فُرضت عليه، بطولة الصمود في وجه الموت دون خيار، بطولة الاحتماء بالركام بدل أن يحتمي به.
في الجنوب، كما في بيروت و طرابلس و البقاع و كل لبنان، السيناريو ذاته يتكرر: يموت الفقير ليحيا الشعار، يهاجر الشباب لتبقى مملكة الزعيم، وتُنهب الودائع ليعيش النظام المالي على أنقاضها.
عند أبواب المطارات، تقف الأمهات متكئات على الآباء، مودّعين أبناءهم الذين يرحلون إلى حيث المال للحياة، وليس المال للموت. أما من يبقى، فيقف عند أبواب الانتظار، مترقبًا المجهول حتى السقم.
أما الزعيم، فيعيش خرافته الخاصة: يحاضر في الوطنية و العفة، يزايد في المقاومة، ولا يعرف طعم الجوع، ولا يشعر ببرودة الليل حين تنطفئ كهرباء الدولة. يبيع الناس الأوهام، وهم يشترونها، رغم إدراكهم أنهم ليسوا أكثر من ارقام بالنسبة له..
لكن، هل كُتب على هذا الشعب أن يكون رهينة أبدية؟ أليس هناك سبيل آخر غير الوقوف في طوابير الذلّ، سواء أكانت طوابير المصارف، أو محطات الوقود، أو أمام السفارات؟ لماذا يعيش اللبناني تحت رحمة تاجر الوطن، الفارغ إلا من الإجرام الدفين، يعتاش على قتل شعبه بطرق شتى، مرة بالرصاص، ومرة بالفساد، ومرة بتجويعه حتى يرضخ؟
الحل ليس في انتظار معجزة، ولا في التمسك بخطابات مكررة عن المؤامرات الخارجية التي تُستخدم لتبرير كل فشل. الحل في كسر هذه السلسلة المهلكة، في الالتفاف حول القيم الحقيقية للوطن، لا حول أوهام الطوائف والمناطقية. على اللبنانيين أن يدركوا أن خلاصهم لا يأتي من زعيمٍ يعتبرهم مجرد احجار داما في لعبته، بل منهم هم، من تضامنهم، من قدرتهم على إسقاط الأصنام التي عبدوها لعقود.
منذ ثلاثين عامًا وأكثر، يعيش اللبناني في جمهورية مسروقة. تُنهب مقدراته، تُبدد ثرواته، تُرهن مؤسساته، ويُقال له: “لا حل إلا بالصبر”، و”لا خلاص إلا في انتظار الفرج المجهول “. وفي كل مرة يطالب بحقه، يُرمى بتهمة العمالة، أو يُقمع، أو يُقتل، أو يُزجّ به في سجنٍ كبير دون حكمٍ ولا محاكمة.
في هذا الوطن المسروق، لا يُطلب من المواطن أن يكون منتجًا، بل تابعًا. لا يُسمح له بأن يكون مواطنًا، بل يُفرض عليه أن يكون وقودًا لصراع لا نهاية له. وإن حاول الاعتراض، فهناك دائمًا من يذكره بأن البديل هو الفوضى، وكأن ما يعيشه ليس قاع الفوضى بعينه.
آن الأوان لكسر هذه الحلقة الجهنمية، لرفض أن يبقى اللبناني رهينة بيد أمراء الحرب وتجار الشعارات. لم يعد مقبولًا أن يظل الشعب مختطفًا باسم “القضايا الكبرى” التي لا تأتي إلا بمزيد من الانهيارات. لم يعد مقبولًا أن يتكرر مشهد الحاكم السرمدي، الأكثر من ثري، واعظًا، محدّثًا الفقراء عن الصبر والصمود.
اللبناني، بدل أن يكون مواطنًا كامل الحقوق، تحوّل إلى متسوّل ينتظر رحمة خاطفي السلطة. إنه الزعيم الذي يقرر عنه كيف يعيش، ومتى يجوع، ومتى يحارب، ومتى يموت.
لماذا يبدو البقاء في لبنان وكأنه معركة يومية لا تنتهي؟ لماذا يُطلب من المواطن أن يكون مشروع شهادة بدل أن يكون مشروع حياة؟
البطولة ليست أن تموت بصمت، بل أن ترفض هذا الموت المجاني. البطولة ليست في تقديم المزيد من التضحيات، بل في التوقف عن كونك رهينة. البطولة ليست أن ننتظر خلاصًا لن يأتي، بل أن نصنع خلاصنا بأيدينا. الوحدة الحقيقية ليست في التبعية للزعيم، بل في التكاتف ضد من سرق الوطن وحوّله إلى مزرعة خاصة.
آن الأوان أن ينفض اللبناني عنه هذا الوهم، ويؤمن أن الطريق للخلاص يمر عبر رفض الطاعة العمياء، وعبر بناء وطنٍ لا يُحكم بالولاءات، بل بالمواطنة.
لبنان ليس بحاجة إلى مزيد من الأبطال الموتى، بل بحاجة إلى مواطنين أحياء يدافعون عن حقهم في الحياة.