رامي فنج

في لبنان، تتكرر المشاهد ذاتها بوجوه مختلفة، حيث تبقى السلطة أسيرة المحاصصة والرهانات الإقليمية، وتبقى التعيينات أداة لتكريس التوازنات الطائفية بدل أن تكون مدخلًا لإصلاح الدولة. لا شيء يتغير، إلا في التفاصيل، بينما تظل القواعد التي تحكم اللعبة السياسية هي نفسها، لا تقبل تعديلًا ولا تطويرًا، بل تتحصن خلف جدران التعطيل والمراوغة.
حين تشكلت الحكومة، بدا واضحًا أن اللعبة لم تخرج عن سياقها التقليدي، فالرئيس نبيه بري، ممثلًا لمنظومة فرضت نفسها لعقود، لم يتردد في التدخل بعملية التشكيل، رغم أن الدستور ينص على أنها من صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة. هكذا، وجد اللبنانيون أنفسهم مرة أخرى أمام إعادة إنتاج لتجربة “الترويكا”، التي جرى دفنها نظريًا مع اتفاق الطائف، لكنها ما زالت تحكم عمليًا كل مسار السلطة. التعيينات الأمنية والإدارية والعسكرية التي كان يُفترض أن تتم وفقًا لمنطق الدولة، خضعت مجددًا لمعادلة الولاءات السياسية والطائفية، حتى بات التغيير مجرد عملية توزيع جديدة للحصص، لا أكثر.
كان يفترض أن تشكل حكومة نواف سلام، ومن خلفها عهد الرئيس جوزاف عون، بداية لمسار مختلف، لكن الوقائع أثبتت أن التسويات لا تزال هي الحاكم الفعلي، وأن أي محاولة للإصلاح تصطدم بجدران المصالح المتشابكة. لم تكن التعيينات المالية سوى نموذج آخر لهذا الانحدار، فحين تم تعيين كريم سعيد حاكمًا لمصرف لبنان، لم يكن القرار اقتصاديًا بقدر ما كان سياسيًا بامتياز، إذ جاء ليؤكد أن الحسابات الطائفية والسياسية لا تزال تتقدم على أي رؤية إصلاحية حقيقية. كان نواف سلام يأمل في اختيار شخصية تتبنى نهجًا أكثر انسجامًا مع مطالب المودعين، لكن القرار جاء ليعكس واقعًا مختلفًا: المؤسسات المالية لا تزال في قبضة الطبقة السياسية، التي لا تنوي التخلي عن أدوات نفوذها مهما كان الثمن.
لم يكن الخلاف حول تعيين الحاكم سوى جزء من مشهد أوسع، يمتد إلى مصرف لبنان المركزي حيث جرت المحافظة على التوزيع الطائفي التقليدي، من قيادة الجيش إلى الأجهزة الأمنية المختلفة. وإذا كان هذا الواقع ليس جديدًا، إلا أن ما زاد من تعقيده هو أن كل فريق سياسي حاول أن يفرض حصته بمعزل عن أي معيار كفاءة أو أقدمية. انتُقد تعيين اللواء رائد عبدالله مديرًا عامًا لقوى الأمن الداخلي بسبب تجاوزه الأقدمية، كما أثارت خلفية اللواء حسن شقير، المدير العام الجديد للأمن العام، جدلًا حول دوره السابق في جهاز أمن الدولة. ومع ذلك، لم يكن التنافس بين السياسيين على الأسماء سوى انعكاس لصراع أكبر على النفوذ داخل المؤسسات، وهو صراع لم يغب عنه العامل الخارجي، خصوصًا مع دخول الولايات المتحدة وفرنسا على خط إعادة ترتيب المشهد اللبناني وفقًا لمصالحهما.
فرنسا، التي ما زالت تسعى للحفاظ على دورها التقليدي في لبنان، تدرك أن المعركة الفعلية ليست في الأسماء، بل في ضمان استمرار التوازنات التي تتيح لها التحكم في المسار السياسي والاقتصادي. من هنا، كان الضغط الذي مارسه الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، الذي حاول أن يربط أي مساعدات مالية بتقدم الإصلاحات، خصوصًا في القطاع المصرفي. لكن فرنسا ليست اللاعب الوحيد، إذ إن الولايات المتحدة، رغم انشغالها بملفات أخرى، لا تزال تراقب لبنان عن كثب، وتركز بشكل أساسي على ملفي الترسيم الحدودي وسلاح حزب الله. زيارة مورغان أورتاغوس، نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، ليست سوى دليل إضافي على أن واشنطن لم تفقد اهتمامها بالملف اللبناني، بل تعيد ترتيب أولوياتها فيه، محاولة أن تفرض مقاربة مختلفة تقوم على الضغط غير المباشر بدل المواجهة المباشرة.
كل هذه المعادلات تضع لبنان أمام معضلة مستمرة: بين الإصلاح الذي لا يأتي، والاستحقاقات السياسية التي لا يمكن تأجيلها. فبين الداخل الذي يرفض التغيير والخارج الذي يفرض شروطه، يبقى لبنان عالقًا في حلقة مفرغة، حيث تتجدد الأزمات بدل أن تُحل، وحيث تبقى الدولة رهينة توازنات تمنعها من النهوض، لكنها في الوقت ذاته تحمي الطبقة الحاكمة من السقوط. ليست الأزمة في التفاصيل، بل في المسار العام، الذي يبدو أنه لا يزال محكومًا بالماضي، حتى حين يُقال إننا أمام مرحلة جديدة.