ديما حسين صلح

في كل زمان ومكان، هناك فئة لا تفعل شيئًا سوى الجلوس خلف مكاتبها الخشبية اللامعة، محاطة برفوف من الكتب التي لا تفعل بها شيئًا سوى تلميع صورتها أمام الآخرين. فئة تعتبر نفسها فوق الجميع، تدّعي العقلانية والانفتاح، لكنها أول من يمارس الإقصاء والتصنيف. هؤلاء “المثقفون البرجوازيون”، الذين لا يُتعبون أنفسهم إلا برفع حاجبهم اليساري استهزاءً بكل من يختلف معهم، يعتقدون أنهم حراس القيم والتقدمية، بينما هم غارقون حتى آذانهم في مستنقع التناقضات.
هؤلاء العباقرة الورقيون، الذين لم تطأ أقدامهم أرض الواقع يومًا، يوزّعون صكوك التحضر والجهل حسب المقاسات التي تناسب نظرياتهم المستوردة. هم لا يترددون في وصف أنفسهم بحماة التعددية، لكنهم في الواقع لا يتقبلون سوى نسخة واحدة من التعددية: تلك التي تتناسب مع ذوقهم وأفكارهم المستوردة من صالونات باريس ومكتبات لندن. أما البقية؟ مجرد “عقول بدائية” لم تصل إلى مستوى رقيّهم المزعوم.
لكن ما يثير شغفهم النقدي أكثر من أي شيء آخر هو كل ما يمتّ بصلة إلى الدين، وبالأخص الإسلام. يتقمصون دور القضاة، يفحصون اللحى، يقيمون أسلوب التواصل بين أبناء المجتمعات الإسلامية، يراقبون طريقة لباسهم، ويقررون، من علياء مكاتبهم المكيفة، أنهم مجموعة من الهمج المتخلفين غير القادرين على الاندماج في “الحداثة”. الشعائر الدينية بالنسبة لهم ليست سوى طقوس سحرية ساذجة، والمعتقدات الإسلامية ليست إلا “عائقًا أمام التقدم”، وأي شخص يجرؤ على الالتزام بها هو مشروع إرهابي محتمل. يحدّقون بازدراء في أي امرأة محجبة، ويعتبرون أي رجل متدين تهديدًا حضاريًا، كل ذلك باسم التنوير والتحرر.
أما حين يتعلق الأمر بسوريا، فها هو المثقف البرجوازي يشحذ قلمه ليصبّ جام غضبه على الثوار، لأنهم لم يحملوا شهادة الدكتوراه قبل أن يحملوا السلاح ضد طاغية دمّر بلادهم! يجلس في مقهاه الأنيق، يحتسي قهوته المستوردة، ويفكر: “لماذا هؤلاء الثوار لا يرتدون البدلات الرسمية أثناء المعارك؟ لماذا لا يخوضون ثورتهم وفقًا للمعايير الأكاديمية للنضال؟ كيف يجرؤون على التحرر من الطاغية دون استشارتي أولًا؟”
هذا المثقف يطالب بالحرية والتعددية، لكنه أول من يحتقر أي فكر لا يشبه أفكاره، وأول من يسخر من عقائد الناس وموروثاتهم، فقط لأنهم لم يتخرجوا من نفس مدرسته الفكرية البائسة. هو التقدمي حين يناسبه الأمر، والسلطوي حين يختلف معه الآخرون. يحاضر عن حقوق الإنسان في الصباح، ثم يصف الملايين من البشر بالجهلة والمتخلفين في المساء.
بالمختصر، هذا المثقف البرجوازي لا يعرف عن الحياة إلا ما قرأه في الكتب، ولا يعرف عن النضال إلا ما شاهده في الأفلام الوثائقية، ولا يرى العالم إلا من نافذة مكتبه المكيف. أما الأرض، بكل ما فيها من ثورة، حياة، وتنوع… فهي بالنسبة له مجرد نظرية لم تُثبت صحتها بعد!
