أحمد الأيوبي

جاء الإفطار الجامع الذي احتضنته دار الفتوى يوم السبت 15 آذار ليعيد الاعتبار لهذه المرجعية الدينية والوطنية التي عانت التهميشَ الداخلي والضغطَ الخارجي لمنعها من أخذ دورها المحوريّ في الحياة الوطنية، وكان مصدر هذا الاستهداف واحداً في عهد الاحتلال الأسدي وفي زمن هيمنة «حزب اللّه» على لبنان كقوة أمرٍ واقع، كما واجهت تحدّيات التسلّط السني من قبل رؤساء الحكومات وخاصة من «تيار المستقبل» الذي تصرّف مع الدار وكأنّها ملكيّة حزبية، لكنّ التحوّلات التي شهدها لبنان وتحرّره من قوى الضغط الداخلية والخارجية أعادت الزخم إلى الموقع الإسلامي والجامع لها، وكان من أبرز علامات عودتها الوطنية مشاركة رئيس الجمهورية جوزاف عون في هذا الإطار وإطلاقه مواقف مهمة وغنية بالدلالات السياسية.
لا بُدّ في بداية هذه المقاربة من التذكير بأنّ الرئيس جوزاف عون قام بدور وطني عميق طيلة فترة قيادته الجيش اللبناني تمثّل في الاحتضان العملي للسنّة في لبنان بعد إلغاء وسائل القمع والضغط غير القانونية وغير الإنسانية التي كانوا يتعرّضون لها في العهود السابقة نتيجة خضوع الجيش للقرار السياسي، فكانت تُهَمُ الإرهاب والاعتقالات والمكوث في السجن بلا محاكمة لسنوات والتوقيف على الشبهة… هي السائدة، لكنّ العماد جوزاف عون أوقف هذه الممارسات رغم أنّه واجه صعوبات بسبب الدولة العميقة المتمترسة في مؤسسات الدولة.
لم يكتفِ العماد عون بما تقدّم، بل إنّه فتح الحوار مع جميع الأطياف الإسلامية وزار دار الفتوى في طرابلس متضامناً مع الفيحاء رافضاً وصفها بقندهار ومتضامناً معها في مواجهتها مع الحرب التي تُشنُّ عليها بالمخدِّرات واصفاً هذه الآفة بأنّها أخطر من الإرهاب.
عمل العماد عون على منع الظلم على السنّة في لبنان وخاصة في القضايا ذات الطابع السياسي وأبرزها الظلم الذي تعرّضت له العشائر العربية في خلدة نتيجة التدخّل السافر الذي مارسه الأمين العام الراحل لـ «حزب اللّه» حسن نصراللّه في هذه القضية التي انتهت أغلب فصولها بتغليب العدالة على «التشبيح» الأمني والسياسي والقضائي.
من اللافت في خطاب الرئيس عون في دار الفتوى حرصه على تظهير التواصل الإسلامي المسيحي من خلال حديثه عن جمالية «التدبير الإلهيّ في أن يتزامنَ هذا الشهرُ الفضيلُ مع زمنِ الصومِ الكبيرِ لدى الطوائفِ المسيحية. فالصومُ، بما يعنيهِ من ممارسةٍ روحيةٍ مشتركةٍ بين المسلمينَ والمسيحيين، هو التقرّبُ إلى اللهِ من خلالِ العبادةِ … والتضامن مع الفقراءِ والمحتاجين»، وتأكيده «على أنّ لبنان هو وطنُ الرسالة والتنوعِ والتعددية، وطنٌ يتّسعُ للجميعِ بمختلفِ انتماءاتِهم ومعتقداتِهم. ومن هنا تأتي أهميةُ المشاركةِ السياسيةِ لجميعِ شرائحِ المجتمعِ اللبناني، من دونِ تهميشٍ أو عزلٍ أو إقصاءٍ لأيِّ مكوّنٍ من مكوناتِه».
ما حصل منذ انبلاج عهد الرئيس عون هو أنّ جزءاً مهماً من الدولة تحرّر وبات سقفُ العمل الوطني أعلى ممّا كان قبله، وهذا لا يعني أنّ الدولة قامت واستقامت، بل هناك تحدّيات كبيرة ما زالت تفرض نفسها في طريق القيامة المنتظرة للبنان، لكن ما يمكن تسجيله للرئيس عون هو أنّه في زمن التيه السنّي والمظالم التي عاناها أهل السنة، كان السند والحريص على رفع الظلم عنهم بما استطاع، وينتظر الرأيُ العام السنّي منه استكمال مسيرته في تأمين العدالة لقضاياهم والتوازن والحقوق لمناطقهم، وخاصة قضية الموقوفين وما يتفرّع عنها… بانتظار أن يتمكّن الجمهور السني من إنتاج قيادات قادرة على العمل الوطني بعد الانتخابات النيابية المقبلة.
لا تأتي هذه المقاربة من منطلق طائفيّ، بل محاولة للتعبير عن أهمية السلوك المناقض للطائفية الذي سلكه ويسلكه الرئيس جوزاف عون تجاه الجميع وخاصة تجاه الفئة الأكثر تهميشاً من اللبنانيين وهذا ما يطمح إليه كلّ من يريد بناء الدولة العادلة القوية والمستقلّة، فإنصافُ اللبنانيين السُّنة مهمّة وطنية نبيلة، وتأمين العدالة لجميع اللبنانيين واجبٌ مستحقّ، ولعلّ هذه هي الرسالة الأكثر بلاغة من حضور ومشاركة الرئيس عون في إفطار دار الفتوى الجامع.