محمّد خير موسى
في عام 1889م تأسّست في تركيا “جمعيّة الاتحاد والترقّي”، هذه الجمعيّة التي ضمّت في صفوفها بعد ذلك أطيافًا متناقضة من التوجهات التركيّة؛ فضمّت العلمانيّين واليساريّين واليمينيّين وشرائح من الإسلاميّين، وكانت الشّعارات التي رفعها هؤلاء في الجمعيّة هي؛ دولةٌ ديمقراطية حديثة، والحريّة والمساواة بين شعوب الدّولة، يومها أعطى الإسلاميّون الذين انتسبوا إلى هذه الجمعيّة في غفلةِ الانتصار لأحقادهم الشخصيّة على السلطان الغطاءَ لهذه الجمعيّة، قاتّخذهم العلمانيّون فيها ذراعًا لتحقيق أهدافهم التي انتهت بخلع السّلطان عبد الحميد الثاني وإنهاء الخلافة العثمانيّة لتبدأ مرحلةً قاسيةً من الاستبداد العلماني والظّلم الطّوراني بحقّ تركيا؛ الاستبداد الذي لم يستثنِ الإسلاميّين الذين شاركوا في هذا التحالف فكانوا من أوائل من اصطلوا بنيرانه؛ فعُلّقت المشانق، ومنع الحجاب، امتلأت السجون بمن يحاول تعلّم أو تعليم القرآن الكريم، وصار الأذان باللغة التركيّة، وأعدمت الحريّة التي كانت شعارًا للوصول إلى هذا الاستبداد المرّ.
هل يعيد التّاريخ نفسه؟
قد لا يعيدُ التّاريخ التفاصيل ذاتها، والأحداث بالصّورة نفسها وبالتّطابق ذاته؛ لكنّه يتكرّر في صورته العامّة، وحين حدوث مقدّمات أحداثٍ سلفت فهذا تنبيه إلى إمكان حدوث نتائجها، وما أشبه اليوم بالبارحة؛ إذ تتجدّد اليوم مقدّمات ما مضى من خلال تحالف شرائح من العلمانيّين واليساريين والقوميين واليمينيّين والإسلاميّين في جبهةٍ واحدة تحت شعار الحريّة والديمقراطيّة بينما يعلم الجميع أنّهم انتظموا في هذا الجبهة لهدف وحيد هو إسقاط الرّئيس أردوغان.
ففي الطّاولة السداسيّة قدّم الإسلاميّون المشاركون تحت سطوة الرغبة في الانتقام الشخصيّ غطاءً لمن يعادون أردوغان لهويّته وانتمائه، ويسعون إلى تحقيق الاستدارة في تركيا كلّها إلى انتماءٍ مختلف ووجهةٍ أخرى.
ولستُ أرى كثيرَ فرقٍ في صورة “جمعيّة الاتحاد والترقّي” عن “الطّاولة السّداسيّة” في طريقة تكوينها وفي أهدافها المعلنة وفي اتخاذ شريحة من “الإسلاميين” مطيّةً لتحقيق الغايات التي يطمح إليها المعادون لوجه تركيا الجديد الذي سعى الرئيس أردوغان إلى ترسيخه على المستوى الدّاخلي والخارجي لتركيا.
لماذا “صوِّتوا لأردوغان”؟
لستُ مغرمًا بالتغزّل بالسياسيّين أيًّا كانت وجهتهم ولا أرتضي ذلك لنفسي، فالحديث إذن ليسَ عن شخصٍ اسمه رجب طيّب أردوغان بل عن مشروعٍ يمثّله أردوغان.
ومن نافلة القول أن نؤكّد أنّ أردوغان ليسَ خليفة المسلمين، وأنّه ليس السلطان العثمانيّ الجديد، بل هو رئيس تركيا التي نحبّ أن تكون دولةً مزدهرةً في حريتها واقتصادها، ومحوريّةً على مستوى العالم الإسلاميّ، ورقمًا صعبًا في النظام الدّوليّ؛ وقد استطاع أردوغان أن يجعلها كذلك.
وقد يقال: هي معركة انتخابيّة فلمَ كلّ هذا التدخّل والتّهويل؟ يا سيّدي إنّ أبسط متابع يدرك أنّ ما يجري هو حربٌ حقيقيّة تحت ستارٍ من الانتخابات ودثارٍ من الديمقراطيّة، هي حربٌ تتدخّل فيها أمريكا وأوروبا بكلّ جحافلها السياسيّة وتُجلب فيها بخيلها ورجلها وإعلامها ضدّ أردوغان شخصًا ومنهجًا وتوجّهًا.
نعم؛ ليست معركةً بين الكفر والإيمان، ولكنّها معركةٌ بين المُصلح والمفسد، ومعركة بين الإصلاح والإفساد، ومعركة بين المصلحة والمفسدة.
وليست هناك مصلحةٌ محضة ولا مفسدة محضة، ويمكن أن يكون لكَ على الرئيس أردوغان وعلى حزب العدالة عشرات الانتقادات، والملحوظات، والرفض لسياسات ومواقف، واستنكار لتصريحات وأفعال، ولكن هذا لا ينفي أنّ جانب المصلحة في انتخابه على الرغم من كلّ هذه الملحوظات واضحٌ وضوح الشمس في رابعة النهار، وجانب المفسدة في انتخاب خصمه لا ينكره إلّا من كان في عينيه رمد، وكان فمه مرًّا مريضًا يحسّ مرًّا به الماء الزّلالا.
لهذا كلّه نقول: صوِّتوا لأردوغان؛ لأنّه يمثّل مشروع الإصلاح الذي نطمح أن يكون أفضل مما هو عليه، بينما يمثّل خصمه مشروع الإفساد الذي يشهد له الماضي القريب والحاضر القائم.
صوِّتوا لأردوغان لأنّه يريد لتركيا أن تكون رأسًا في الحقّ بينما يريدها خصمه ذيلًا في الباطل.
صوِّتوا لأردوغان لأنّه صنع من تركيا دولةً لها اسمها ومكانتها وصدارتها في العالم الإسلاميّ وجعلها رقمًا صعبًا في حسابات الدول الأوروبية والغربيّة، بينما يريدها خصمه لقمةً سائغةً بين أنياب الطّامعين والطّامحين لمدّ نفوذهم السياسيّ والاقتصادي فيها.
صوِّتوا لأردوغان لأنّ من عاصروا حقبَتي ما قبل العدالة والتنمية وما بعدها، وما قبل أردوغان وما بعده؛ يمكنهم أن يحدّثوكم عن المدن التي كان يُضرب بها المثل في عدم نظافة شوارعها ومرافقها وسوء خدماتها ابتداء من إسطنبول إلى غيرها وكيف أصبحت اليوم مضرب المثل في النظافة والنقاء والجمال ورقيّ الخدمات.