ياسر أبو هلالة – كاتب أردني
تذكرني قصة نقل تمثال الفحيص بمراهقتي الحقيقية والفكرية، كنا فتية في الثمانينيات من القرن الماضي، شباب الصحوة الإسلامية الذين يحيون سيرة أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام عندما حطم الأصنام، في بيت جدي في جبل الحسين دمرنا تمثال جبس لنمر يلتف عليه ثعبان ، لا أدري كيف خطر على بال أولاد خالتي في الزرقاء اقناعنا بالفكرة التي طبقوها ببيتهم عن طريق مغافلة أمهم بوضع الدمى ( الأصنام ) التي تأتيها هدايا من ابنها الذي يدرس الهندسة في رومانيا على حافة البلكونة وإسقاطها سهوا. كان قد مر على وجود تمثال النمر عقودا وصار معلما من معالم غرفة الضيوف، لا يعبده أحد ولا يعبأ به أحد .
عندما دمرنا التمثال اكتسب أهمية استثنائية وتسبب بكارثة عائلية، فجدتي رحمها الله صدمت بفهم “أولاد” أغرار للدين وفرضه عليها. كان والدي قد اصطحبها للحج قبل ذلك بسنين ولم يخطر على باله تدمير التمثال، ومر على البيت أصهار متدينون وقبلوا به ولم يسبب لهم مشكلة . في نقاشات العائلة تساءل خالي سعيد حياصات يومها “ما الذي يمنعهم من تدمير تمثال الجندي المجهول المقام في الغور عند معركة الكرامة ؟ “حقيقة ما كان يمنعنا هو الإمكانات اللوجستية. ولكن من حيث المبدأ لم يكن مختلفا بنظرنا عن النمر والثعبان. وهو نفس فكر طالبان عندما دمرت تماثيل بوذا، ونفس فكر من أثاروا ضجة على نصب تمثال المسيح عليه السلام في مدينة الفحيص المسيحية تاريخيا.
المراهقة الفكرية التي غادرتها لها حضور واسع على منصات التواصل، وهذا المراهقة أربكت الدولة وتواطأت معها في التعامل مع الدين والفن والمواطنة. فالدولة التي وافقت على إزالة التمثال هي ذاتها إلى وافقت على نصبه، صحيح أنها توصلت إلى حل الوسط وهو نقله إلى المقبرة المسيحية لكن لم يعد موجودا في فضاء المدينة . وهو ما يعيدني إلى سؤال خالي لماذا لا يدمرون الجندي المجهول ؟ حسنا، كل التماثيل النبطية، بما فيها اللات والعزى ومناة والبتراء نفسها ومعالمها ما هي إلا تماثيل ومنحوتات،بعضها كان يعبد من دون الله . فضلا عن الآثار الرومانية وغيرها، هل نتخلص منها؟
يوما كنت محررا لصفحة المحافظات في جريدة الرأي، وظل الزميل النشط غازي العمريين يزودنا باكتشفات خربة الذريح الأثرية ، وأكثرها أصنام العرب اللاة وأخواتها. وقبل تطور الإنترنت كانت ترسل المواد باليد، أرسل ممازحا مغلفا فيه الصور وكتب عليه “إحذر جميع الآلهة في الداخل ” لدينا في الأردن أقدم تمثالين عملين فنيين في العالم ” تماثيل عين غزال”، هل ندمرها؟
القصة جارحة للمواطنة وليس لمشاعر المسيحين فقط. في القضية استقواء طائفي يذكرني بإزالة تمثال المنصور باني بغداد بحج دينية مع إنها في الواقع طائفية. الجدال الديني مشروع وقد شاهدت بعيني في كاثدرائية درم في بريطانيا كيف أزال البروتستانت تماثيل المسيح والعذراء لأنهم اعتبروها بدعة في الدين. ولا شك إن الإسلام ومذاهب مسيحية ترفض التجسيم لكن هذا لا يجوز فرضه على من لا يؤمن به.
لنتذكر المسلمين في الهند الذين تدمر مساجدهم ويمنع الحجاب على نساءهم بدعوى الصفاء الهندوسي . وهذه النتيجة الطبيعية للتفكير الإقصائي. وما تقبله على الآخرين تقبله على نفسك.
سيدنا عمر رفض الصلاة في كنيسة القيامة حتى لا يحولها من بعده مسجدا وأقيم مسجد عمر بجوارها، المسيحية دين أجدادنا منهم من أسلم ومنهم من بقي عليها، وحتى اليوم توجد عوائل مختلطة . ما صورتنا أمام الغرب ونحن نفاخر بأن حضارتنا هي حضارة التنوع التي حافظت على المسيحية في مهدها؟ ضاقت بلادنا بتمثال ؟؟؟ لماذا نحتج على الغرب عندما تمنع بعض الدول بناء المآذن ؟ لماذا نتضامن مع الروهنيجا ؟
الغريب أن الدولة التي لا تتسامح سياسيا مع التيارات الإسلامية المعتدلة وخلت آخر تشكيلة لمجلس الأعيان من أي سياسي إسلامي حتى من المحسوبين على الدولة تتسامح مع الأصوات المتشددة وتتواطأ معها. لا يجوز أن يشعر المسيحي إن الدولة تحميه بالقانون يجب أن يشعر إن ثقافة المجتمع تحميه، والأقلية والأكثرية ليست عرقية ولا طائفية بل هي تعبيرات سياسية متحركة فالأقلية تتحول إلى أكثرية والعكس. ولا يقبل وصم فئة بالأقلية بسبب التعداد السكاني، بهذا المعنى الشركس أقلية، والبدو أقلية، وأنا بوصفي من محافظة معان من أقل المحافظات تعدادا أقلية.
ما حصل محزن، ومخجل، وغير مقبول، وغير معقول. اعتذرت لجدتي رحمها الله على مراهقتي، وأعتذر لكل مسيحي عن مراهقي منصات التواصل. وما حصل جرحنا جميعا. وعلى الدولة والمجتمع، وخصوصا علماء الدين الاسلامي مواجهة الفكر الإقصائي والانعزالي لأن نتيجيته الطبيعية الفكر الداعشي الذي دمر مراقد الصحابة والأنبياء والأولياء بحجة التوحيد وحماية العقيدة، حماية للدين من التطرف ، والوطن من الانقسام ، تماما كحماية مشاعر المواطنين المسيحين.