عارف العبد
في كتابه المعنون: “التحالف السوري الإيراني والمنطقة”، يروي نائب الرئيس السوري الراحل عبد الحليم، فصولاً من خلفيات وتوجهات وأسباب العلاقات السورية الإيرانية ومنطلقاتها، من موقعه في المسؤولية ونظرته ومواكبته لنمو وتطور العلاقات السورية الإيرانية وأبعادها من مختلف المستويات.
ويقدّم خدام في كتابه بعض جوانب التفكير والتصرف الإيراني، في أكثر من مجال، وعلى وجه التحديد ما يختص بالتفكير الإيراني ونظرته للأمور والمصالح وطرق التعامل.
يقول خدام في عرضه لأسلوب المراوغة والدهاء الإيراني: إنه بعد أحداث أيلول 2001، قامت الولايات المتحدة الأميركية، بشن حرب في أفغانستان ضد طالبان، وقدمت إيران مساعدات مهمة للقوات الأميركية في تلك الحرب. وتساءل الكثيرون كيف تقدم إيران مساعدات لعدوها الشيطان الأكبر؟ ليجيب: هناك قول مأثور في إيران يقول: “إذا رأيت الأفعى لا تقتلها بيدك وإنما بيد عدوك”. فقد استعانت إيران بالعدو الأميركي لقتل الأفعى الأفغانية.
كما يقدم خدام في كتابه هذا وقائع متعددة لكيفية التعامل الإيراني مع سوريا، وخصوصاً ما يتعلق بالأمر تجاه لبنان. ويعرض لبعض المواقف المتوترة والصعبة بين البلدين في لبنان، وتجاه حزب الله والموقف منه ومن دوره، وموقف إيران من لبنان الدولة.
مناسبة هذا الكلام الآن، الأزمة أو الزوبعة السياسية التي أثارها كلام ومواقف المسؤول الإيراني محمد باقر قاليباف، الذي هو رئيس البرلمان. إذ قال لصحيفة فرنسية في موقف مستغرب في توقيته: “إيران مستعدة للتفاوض مع فرنسا، الدولة التي تحمي لبنان تقليدياً، حول الشروط الملموسة لتطبيق قرار الأمم المتحدة الرقم 1701”.
وقالت صحيفة لو فيغارو، التي أجرت حديثاً معه، “إن قاليباف يدعو الآن إلى تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 1701. كما يدعو إلى نشر الجيش اللبناني الوحيد على طول حدود لبنان مع إسرائيل”.
طبعاً هذا الكلام دفع برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي للرد على المسؤول الإيراني. معتبراً إن كلام قاليباف “يشكل تدخلاً فاضحاً في الشأن اللبناني، ومحاولة لتكريس وصاية مرفوضة على لبنان”.
كما طلب رئيس حكومة تصريف الأعمال من وزير الخارجية والمغتربين عبدالله بو حبيب استدعاء القائم باعمال السفارة الإيرانية في بيروت، والاستفسار منه عن حديث رئيس البرلمان الإيراني.
بطبيعة الحال، موقف المسؤول الإيراني ورد ميقاتي عليه، أثار اهتمام الأوساط السياسية كافة. لجهة دخول ميقاتي في المشكلة، وهو المعروف بتفضيله أسلوب المسالمة والابتعاد عن الإثارة والمساجلات والمواجهات.
لكن الذي جرى، أن وقاحة موقف قاليباف، وتوقيته المريب، أخرج ميقاتي عن صمته وأسلوبه المسالم.
لكن الغريب في الأمر ليس الموقف فقط، بل هو التوضيح الذي أعلنه قاليباف. إذ أنه قال موضحاً موقفه في تسريب لوسائل إعلام موالية لإيران، إنه قصد أن إيران تدعم ما توافق عليه المقاومة والحكومة اللبنانية. أي أنه في توضيحه، عاد ليتدخل ويثير أزمة مع لبنان في اعتباره المقاومة جسماً موازياً للحكومة، في تصرف غريب هو الآخر. كما أنه وبعد هذه المشكلة، عاد وقال كلاماً آخر بعد أسبوع، اعتبر فيه أن لبنان بات تحت رعاية المرشد الإيراني علي خامنئي الذي هو “بمثابة الركيزة الأساسية للبنان”!
في الواقع بينت تجارب متعددة مع مسؤولين ودبلوماسيين من إيران في لبنان وتجاه لبنان، نوعاً من الاحتقار القريب من الكره للبنان ودولته والمسؤولين فيه.
ولم يكن أدل على ذلك، سوى التجربة التي صادفها لبنان الرسمي في الموقف وطريقة التعاطي الإيراني تجاه الحكومة اللبنانية إبان عدوان إسرائيل على لبنان 2006.
فقد دلت الوقائع على صدام إيراني لبناني دبلوماسي مماثل، مع رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك فؤاد السنيورة.
ففي إحدى زيارات السفير الإيراني، في تلك الفترة، محمد رضى شيباني، للرئيس السنيورة في السراي الكبير، إبان عدوان تموز، وخلال الحديث عن نتائج العدوان الكارثية والدمار الذي لحق بلبنان يومها، قال السفير الإيراني في الاجتماع للسنيورة: “لا تقلق يا دولة الرئيس، سنعيد لكم إعمار لبنان بأموال طاهرة ونظيفة كما كان وأحسن”. هنا احتد السنيورة يومها مجيباً، “يا سعادة السفير، أنت تبالغ في كلامك، نحن لم نبن بلدنا بأموال قذرة بل بأموال طاهرة ونظيفة من عرق أبناء لبنان وكفاح شعبه وتعبهم طوال السنوات الطويلة الماضية، وبالتالي ليس مقبولاً كلامكم هذا”.
التجربة الثانية، التي تؤشر على الاستخفاف بالدولة اللبنانية واحتقارها من قبل المسؤولين في إيران، هي طريقة التعامل التي تمت مع مؤسسات الدولة إبان عدوان تموز 2006 أيضاً، حين رفض يومها رئيس الهيئة الإيرانية لإعادة الإعمار في لبنان، المهندس حسام خوش نويس، أن يفصح للدولة اللبنانية عن كمية أو مكان المبالغ التي ستنفقها إيران وأين وعلى ماذا، في عملية إعادة الاعمار، رغم تكرار الطلب اللبناني لأكثر من مرة.
وقد رفضت إيران يومها التعاون مع لبنان أو مخاطبته، حتى في مجال إعادة الإعمار أو إطلاعه على أي أمر.
تبين فيما بعد أن السيد حسام خوش نويس، الذي قدم نفسه كمهندس مسؤول عن المساعدة في إعادة الاعمار، لم يكن إلا قيادياً في الحرس الثوري الإيراني، واسمه الحقيقي هو الجنرال “حسن شاطري”، وقد اغتيل في دمشق خلال فترة المواجهات والاشتباكات على طريق المطار. وكان تشييعه ودفنه في إيران حاشداً واستثنائياً، بسبب أهميته وأهمية دوره وموقعه آنذاك في جهاز الحرس، وفي لبنان وسوريا. وقد وصل فيه الأمر بانتقاد علني لأداء المؤسسات اللبنانية يومها، متهماً إياها وفي تصريحات صحافية بالفساد وعدم الكفاية.
واقعياً، فإن طهران، لعبت دوراً مركزياً في إنشاء وتأسيس حزب الله في لبنان، عبر تدريبه وتسليحه ورعايته ومتابعة نموه وتكبير حجمه ودوره. وقد كان للدور الإيراني العسكري والسياسي وهذه الرعاية نصيب في المساعدة على تحرير الجنوب عام 2000. لكن إيران التي لعبت هذا الدور الإيجابي أيضاً، أشرفت على إحداث تغيير جوهري في بنية وتوجهات وتقاليد الطائفة الشيعية في لبنان، ونقلها من طائفة تقلد المرجعية العربية في النجف إلى طائفة تقلد المرجعية الإيرانية في قم. مع كل ما يعني ذلك من تداعيات وتغيرات أصابت بنية الطائفة وعاداتها وتقاليدها وطريقة تفكيرها وتوجهاتها.
عملياً، غيّرت إيران وبدلت الطائفة الشيعية اللبنانية الحيوية، ذات الدور الإيجابي في تكوين وتألق لبنان وتفاعله مع محيطه، ونقلتها من وجهة إلى أخرى. ومن مرجعية النجف العربي الأشرف، إلى وجهة قم الولي الفقيه.. الطامح لإعادة بناء مجد الامبراطورية الفارسية الصفوية، الساعية إلى نفوذ وموطئ قدم على شاطىء المتوسط. والتي باتت تسيطر وتشرف وتدير أربع عواصم عربية في المنطقة، هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، حسب قول أحد المسؤولين في إيران.
لقد كانت نظرية وحدة الساحات، المرعية إيرانياً، بمثابة الفتوى والاستراتيجية التي تبناها أمين عام حزب الله، الشهيد السيد حسن نصرالله، الذي اغتيل في ضاحية بيروت الجنوبية، التي كانت موئلاً للعيش الهانىء الوديع، وتحولت بفعل الإصرار والتوجه الإيراني والإجرام الإسرائيلي، إلى مقبرة للأحلام والآمال والقادة الذين رعتهم ودربتهم إيران، بعد أن تشرد أهلها الطيبون في مختلف أنحاء لبنان والعالم، لا يلوون على أمر، لا في لبنان، ولا في النجف، ولا في قم.